الحديث الثالث

09/04/2021
شارك المقالة:

عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال :

 قال صلى الله عليه وسلم (( من نام عن حزبه من الليل أو من شئ منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما  قرأه من الليل ))

((رواه مسلم))

الحزب هو البعض من الكل ، وهو وسيلة القرب إلى الله تعالى ، فباعتباره من روح العبادة يكون ذكراً ، وباعتباره خضوعاً لله تعالى يكون تسبيحاً ، وباعتباره طلب رحمة من الله يكون استغفاراَ، وباعتباره مناجاة لله يكون قرآنا ، وباعتباره شوقاً إلى رسول الله يكون صلاة وتسليما على حضرته صلى الله عليه وسلم ، حثنا عليها الإسلام لغرس روح الفضيلة ، ورغبنا فيه ربنا ، لأنه سمو نفس ، وطهارة ضمير ، وحياة قلب ، وغذاء روح ، وقهر للشيطان ، وليس هو مجموعة من التراتيل الفاقدة للوعى والورح وإنما هو سلاح فعال فى ميدان الحياة وقد انتشرت  دعوى الإنكار على تلاوة الأحزاب والأوراد والصلوات بالمساجد تارة بزعم أن هذا العمل لم يكن فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتارة أنه لم يكن بصورة جماعية ، وتارة أنه لم يكن علانية بل كان سراً ، وللأسف لم يقم أحد من العلماء فى طريقهم ولم يردوا عليهم ، وإليك النصوص الواضحة والفاضحة للرد على هؤلاء المنكرين ،  ((إن تلاوة الأوراد والصلوات فى السر والعلانية جماعة وفرادى لها أصل أصيل فى الدين ، سواء أكان فى المساجد أو فى بيوت الناس ، وقد جاء في حكمها آيات كثيرة من كتاب الله ، نذكر منها على سبيل الاستدلال ، فى حالة الجهر أو التوسط أو الإسرار ، قوله تعالى : ((ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين )) وقوله تعالى (( واذكر ربك فى نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين )) والتضرع مقابل الخفية أى ادعوه علانية ، وقد اختار هذا ابو مسلم ، وقيل بتقديم الجهر على الإخفاء إذا خلا الجهر من الرياء ، وكان فيه قصد تعليم جاهل ، أو نحو هذا من إزالة وحشة من مستوحش ، أو تغيير مبتدع عن بدعة ، ومنه الجهر بالترضى عن الصحابة والدعاء لإمام المسلمين فى الخطبة ، وقد سن الشافعية الجهر بآمين بعد الفاتحة وهو دعاء يجهر به الإمام والمأموم معاً ولتلاوة الأوراد والصلوات أدلة وشواهد من كتب السنة ، فقد جاء فى صحيح الإمام مسلم عن ابن عباس قال ((ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير )) وروى أيضا أن أبا معبد مولى ابن عباس أخبره ((أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبى صلى الله عليه وسلم )) وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ((ما جلس قومجلساً

لم يذكروا الله فيه ، ولم يصلوا على نبيهم ، إلا كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم )) فهذه الأحاديث واضحة وصريحة فى جواز رفع الصوت وأنه هو السنة ، وأما القول بالمخافتة فهو مجرد استحباب واختيار ، أى اجتهاد خاص لعدم ورود نص الحكم بالنهى عن رفع الصوت بختام الصلاة أو تلاوة الصلوات ، بل الجهر هو السنة الصريحة كما رأيت ،  ولم يقع لنا أن الإمام أبا أو مالك أو الشافعى أو ابن حنبل حكم بأن هذا حرام صريح أو منسوخ بنص محكم ، والنص لا ينسخ بالاجتهاد : ومن أراد المزيد فليراجع كتاب ((نيل الخيرات بلازمة الصلوات )) للإمام أبى العزائم ، والذى قال :

رتلن تسبيحة القيام

أسمعنى تسبيحة القوام

من أنا العبد المسبح ربه

بعد فك القيد والأوهام

سبحت روحى ونزه ظاهرى

ظاهرى التنزيه فى الإسلام

قمت للقيام حال عبودتى

جمل الروح بحال ختامى

فمن نام عن حزبه أو سها عن ورده ، فقرأه وقت تذكره ، ودوام عليه إلا كتب له كأنما فعله فى وقته ،  وكان ثوابه على قدر إخلاصه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( خير العمل ما داوم عليه صاحبه وإن قل )) فطالب النجاة يحصن نفسه من أن يتسرب ظلام اليأس إلى أعماقها يستعين على ذلك بقراءة أحزاب وأدعية وصلوات وأوراد وتوسلات ، علاجاً للقلق ، ودواءً للاضطراب والقنوط ، وإكسيراً يتجرعه المؤمن : فيسكن الاضطراب ، ويزول الضيق والاكتئاب ، ويسكب الاطمئنان برده على قلب المؤمن التالى لهذه الأدعية والصلوات ، فيفئ إلى واحة يناله من الرضى يستظل بظلالها ، ويتنفس نسمات الأمن تهب عليه رضية ندية ، وكلما تمسك المؤمن بأحزابه فى أوقاتها أو متى تذكرها فإنه يؤهل للصفو والصفح والعفو والعودة إلى رحاب الله ورسوله ، فهى لون من ألوان الإعداد والتأهيل لقبول وحى الله والتعرض لنفحاته وهباته ، إنها ذكر يزيل ما ران على القلب ، ويذيب الغشاوة التى تعلو صفحة الفؤاد ، وتجتث من الوجدان شرايين الغلظة والجفوة والقسوة ، وعندها تكون معدا لاستقبال أوامر الله وايحاءاته وإلهاماته ، إنها أدعية للغفران ، ومعارج للمقربين ، وسر الوصول لمعية الرسول صلى الله عليه وسلم الذى قال ((أنا حبيب الله والمصلى علىّ حبيبى ، فمن أراد أن يكون حبيبا للحبيب فليكثر من الصلاة على الحبيب ))فالمؤمن الصادق ، يؤثر مرضاة ربه على حظه ، لأنه مسافر إلى ربه مقبل عليه ، ومن الناس من يكون سيره ببدنه وجوارحه أغلب عليه من سيره بقلبه وروحه ، ومنهم من سيره بقلبه أغلب عليه ، ومنهم وهم الكمّل الأقوياء من يعطى كل مرحلة حقها ، فيسير إلى الله ببدنه وجوارحه وقلبه وروحه ، وقد أجبر الله سبحانه عن صفوة أوليائه بأنهم دائمالا يريدون سواه ، فقال تعالى ((ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيى يريدون وجهه ))وقال تعالى : ((وما لأحد عنده من نعمة تجزى ، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ، ولسوف يرضى )) فالعبد أخفى أوصافه ، وأعلى مقاماته أن يكون صادقاً فى إرادته بحيث يكون مراده تبعاً لمراد ربه ، ليس له إرادة فى سواه ، فإن العبد كلما كان إلى الله أقرب كان جهاده فى الله أعظم ، وتأمل أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه،

فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب فى مقام عظم جهادهم واجتهادهم ، وأساس ذلك ملازمة الكتاب والسنة ، وترك الأهواء والبدع ، والتمسك بالأئمة ، والاقتداء بالسلف الصالح ، وترك ما أحدثه الآخرون ، والمقام على ما سلك الأولون ، ولقد كان أهل الإقبال على الله ورسوله أشد اجتهاداً وتمسكاً بأورادهم التى هى بداية سيرهم وسلوكهم حتى آخر حياتهم ، قال القشيرى سمعت أبا على الرقاق يقول : رؤى فى يد الجنيد سبحة ، فقيل له أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة ؟ فقال ((طريق وصلت به إلى ربى تبارك وتعالى لا أفارقه أبدا) وقال إسماعيل بن نجيد كان الجنيد يأتى كل يوم إلى السوق ، فيفتح باب حانوته فيدخله ويسبل الستر ويصلى ما شاء ثم يرجع إلى بيته ، ودخل عليه ابن عطاء وهو فى النزع فسلم عليه ، فلم يرد عليه ، ثم رد عليه بعد ساعة ، فقال ، اعذرنى فإنى كنت فى وردى ،  ثم حول وجهه إلى القبلة وكبر ومات ،  ودخل عليه شاب فى مرضه الذى مات فيه وقد تورم وجهه وبين يديه مخدة يصلى إليها فقال وفى هذه الساعة لا تترك الصلاة ؟ فلما سلم دعاه وقال ، شئ وصلت به إلى ربى فلا أدعه ومات بعد ساعة ، قال أبو محمد الجريرى ،  كنت واقفاً على رأس الجنيد وقت وفاته وهو يقرأ القرآن ، فقلت له : يا أبا القاسم ارفق بنفسك ، فقال : أرأيت أحدا أحوج إليه منى فى مثل هذا الوقت وهو ذا تطوى صحيفتى ؟ وقال محمد بن إبراهيم : رأيت الجنيد فى النوم فقلت : ما فعل الله بك ؟ فقال : طاحت تلك الإَشارات ، وغابت تلك العبارات ، وفنيت تلك العلوم ، ونفذت تلك الرسوم ، وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها فى الأٍسحار ، وتذاكر بين يديه أهل المعرفة ، وما استهانوا به من الأوراد ، فقال الجنيد : العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رؤوس الملوك . وقال : الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول * واتبع سنته ولزم طريقته ، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه ، ومن ظن أنه يصل ببذل المجهود فمتعن ، ومن ظن أنه يصل بغير بذل المجهود فمتمن ، وعلامة الإيمان طاعة من آمنت به ، والعمل بما يحبه ويرضاه ، وترك التشاغل عنه بما ينقضى ويزول ، ومن عمل بلا اتباع سنة فباطل عمله . قال أبو يزيد البسطامى : لو نظرتم إلى رجل عطى من الكرامات حتى يرتفع فى الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهى وحفظ الحدود والشريعة . قال عبد الله بن المبارك : لا يظهر على أحد شىء من نور الإيمان إلا باتباع السنة ومجانبة البدعة وكل موضع ترى فيه اجتهادا بلا نور ، فاعلم أن ثمة بدعة خفية واتباع شهوات النفوس هو الذى ينكس الرؤوس ، همة طلبة الفانى أخلدت إلى السفليات وهمة طلبة الباقى صعدت إلى العلويات ، ليس الكشف حقيقة أن ترى النور والظلام بل أن ترى الظلمة عن النور ، فتشهد رفع الغطاء فى السطور .

(الله ولى ................إلى النور ) أى يخرجهم من ظلمات الكفر الذى كانوا عليه أولا إلى نور الهداية التوفيق والإيمان ، الذى قدره لهم أولا . يخرجهم من ظلمة الغفلة المعصية إلى نور التوبة والإنابة ، أو من ظلمة النفس الأمارة بالسوء ومن سوء الطبع إلى نور النظر بالفكر إلى الدلائل الواضحة الدالة على تفريد الله تعالى بالألوهية والإيجاد والإمداد ، لأن السالك كلما وصل إلى مقام من المقامات العالية فإذا وقف عنده وقع فى الظلمة، والسالك إلى الله تعالى لا يقف بل يترقى بين مقام إلى مقام ، ومن عبادة إلى نوع آخر منه راقيا أعلى مقام . قال تعالى : (إن المسلمين والمسلمات ......... وأجرا عظيما ) وأشار إلى ذلك رب العالمين بقوله سبحانه : (التائبون ...... وبشر المؤمنين) . فالسالك إلى الله لا يقف عند مقام من هذه المقامات العالية ، فإذا جذبته العناية ورفعه الله إلى مقام أعلى من مقامه تاب إلى الله مما كان آنسا به من المقامات ، ولو أن السالك عكف على الله ألف سنة ثم وقف نفسا فإنه بقدر ما فاز به من سلوكه أضاع بقدر ما عكف عليه ، قال تعالى : ( ولدينا مزيد) وكان أصحاب الرسول * يكثرون البكاء خوفا من السلب بعد العطاء ، وخشية البعد بعد القرب أو الرد بعد الإقبال ، بسبب خاطر أو وارد أو فتنة ، فقلوب أهل الإيمان فى فزع خوفا من السابقة الخاتمة ، فإذا ظهر للمؤمن دلائل اليقين قوية جلية اطمأن قلبه بالعلم واليقين الذى لا يشوبه تردد ، لأن العلم فوق العقيدة ، فإن العقيدة المسلَّمة قد يشوبها الريب والشك ، فإذا أيدها العلم اليقينى رخصت فى جانبها النفوس والفلوس والعروس تعظيما للقدوس ، وكل عقيدة سلمت من غير علم يؤيدها ولكنها سلمت بأوهام وأطماع وآمال فإنها لا تثبت إلا ريثما تتغير وتنقلب عداوة وإعراضا ، إذا تقرر ذلك ظهر لنا معنى قول أمير المؤمنين على كرم الله وجهه : لو كشف الحجاب ما ازددت يقينا . كأنه يقول : يقينى كمل بما لقيته من رسول الله * ، وبلغت من العلم مبلغا انكشف لى به حقائق ما تلقيته حتى أيقنت يقينا اطمأن به قلبى حتى لو كشف الحجاب لرأيت ما تصورته بعلمى هو الحقيقة بعينها ، والله تعالى يعطى المؤمن الكامل عطايا فوق آماله وتمنياته ، فإنه سبحانه إذا أعطى فإنه يعطى على قدره جل جلاله ، والعبد إذا تمنى فإنه يتمنى على قدر نفسه ، وشتان بين قدر العبد وقدر الرب ، يقول الإمام أبو العزائم :

عطاياك بالإحسان تولى وبالفضل

ومن قبل كونى قد تفضلت بالفعل

لقد سبق التقدير كونى لأننى

أرى الفضل يولى منك من غير ما سؤل

وقبل وجودى أنت قدرت ما تشا

وفى الكون قد نفذت منك بالطول

ولو أن هذا الفضل بالفعل لم أتل

لأنى مسئ فى الضلالة والجهل

فضيلة الشيخ /السيد عبد الحميد الصيفى

العدد (23)السنة الثانية .رجب 1409  .فبراير 1989م