الحقيقة عند الإمام علىِّ عليه السلام (1)

26/05/2021
شارك المقالة:

 

     منذ أن خلق الله الإنسان على ظهر هذه الأرض وهو يبحث جاهدا عن الحقيقة، لأنه على يقين أنه إن وصل إليها استراحت روحه، واطمأن قلبه وهدأت نفسه، يقول الإمام أبو العزائم رضى الله عنه فى حكمة من جوامع كلمه : الحقيقة متى تنكشف، فالطهور يُرتَشَف.

       ويعرفنا الإمام معنى الحقيقة لغة فيقول : الحقيقة والحق : هو الثابت الذى لا يسوغ إنكاره، وفى إصطلاح أهل المعانى : هو الحُكم المطابق للواقع، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك، ويقابله الباطل، فمعنى حقيقة الشئ : مطابقة الواقع إياه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (علم الباطن سر من أسرار الله تعالى وحكمة من حِكم الله يقذفه فى قلوب من يشاء من عباده)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (العلم علمان : علم فى القلب فذلك العلم النافع، وعلم على اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم).

 

     وإذا كانت الشريعة أمر بالتزام العبودية دائما، فإن الحقيقة مشاهدة الربوبية، فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبولة، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة غير مقبولة أيضا، والحقيقة بحسب ما يعلمه السالك فى سلوكه حتى يصل، فإذا وصل بُينت له الحقيقة بحسب مقام الواصل إلى أن يتمكن، فإذا تمكن ألهمه الله الحقيقة.

 

      فإذا انكشفت الحقيقة فى قلب العبد بعد تمكنه فى طريق الحق، دار عليه طهور الراح من المعارف والحقائق والأسرار، والمعانى والدقائق والأنوار، يرتشف منه على قدر ماعونه ما يفاض عليه من أسرار الحقيقة، فالشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قضى وقدر، الشريعة لإصلاح الظواهر، والطريقة لإصلاح الضمائر، والحقيقة لإصلاح السرائر، الشريعة أن تعبده، والطريقة أن تقصده، والحقيقة أن تشهده، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الشريعة أقوالى، والطريقة أفعالى، والحقيقة أحوالى).

الشريعة والحقيقة فى كتاب الله :

     المتأمل فى كتاب الله عز وجل يجد آيات كثيرة جمعت بين الشريعة والحقيقة، تظهر معانيها جلية لأهل العقول السوية، ومن ذلك على سبيل المثال:

     قوله تعالى: (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ)[التكوير:28] فهذه شريعة، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ)[التكوير:29] فهذه حقيقة.

     قوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ)[المدثر :55] فهذه شريعة، (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)[المدثر:56] فهذه حقيقة.

     قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)[الفاتحة:5] حفظا للشريعة، (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة:5] إقرارا بالحقيقة، فـ "إياك نعبد" فيه إثبات الكسب للعبد وإضافة العبادة إليه، و "إياك نستعين" فيه رد الأمر إلى الله، وأن العبادة بعونه وتيسيره، وفى قوله: (إياك نعبد) أى لا نعبد إلا إياك، ولا نشرك فى عبادتك غيرك، فهذا مقام الشريعة، (وإياك نستعين) أى لا نستعين إلا بك لا بأنفسنا وحولنا، وهذا مقام الحقيقة، فإياك نعبد مقام الأبرار، وإياك نستعين مقام المقربين.

     يقول الإمام رضى الله عنه : والمعرفة رأس المال، وطهارة الشريعة بالماء والتراب، وطهارة الطريقة بالتخلية عن الهوى، وطهارة الحقيقة خلو القلب عما سوى الله تعالى، فمن زعم أن العبور من حجب البشرية، والوقوف على أسرار الطريقة والحقيقة بما يخالف الشريعة فقد طغى، وغلبت عليه الضلالة والنسيان، واستهوته الشياطين فى الأرض حيران، حتى أوبقته فى أودية الهجران، وأهلكته فى قيعان الخسران، إلا من تاب وآمن وتاب عليه الرحمن، وإلا فكل طريقة تخالف الشريعة فهى كفر، وكل حقيقة لا يشهد لها الكتاب والسنة فهى إلحاد وزندقة.

     والحقيقة غالية وسامية وهى مطلب أهل التحقيق الأسمى، فلا صبر على جلية الحقيقة ولا وصول لها، ومعلوم أن العبارة لا تكشف الحقيقة، بل هى مجرد تصور لها، ولا تُكشف الحقيقة إلا لمن شهدها، ولو كانت العبارة تكشف الحقيقة لما كفر أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل ما.