من سورة البقرة قوله تعالى: (الم"1")

20/06/2021
شارك المقالة:

من أقوال العلماء في الحروف المقطعة في أوائل السور:

   اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور، فقال عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر، فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب أن يُتكلم فيها، ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت، وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما.

   وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر.

   وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله جل وعز بها.

   وقال جمع من العلماء كبير: بل يجب أن نتكلم فيها، ونلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، فروي عن ابن عباس وعليّ أيضا: أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم، إلا أنَّا لا نعرف تأليفه منها.

    وقال قطرب والفراء وغيرهما: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم.

   قال قطرب: كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما سمعوا: «الم» و «المص» استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم.

   وقال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا: «لا تسمَعُوا لهذا القُرآن وَالْغَوْا فيه» «فصلت:26» نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة.

   وقال جماعة: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها، كقول ابن عباس وغيره: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد.

   وروى أبو الضحى عن ابن عباس في قوله: «الم» قال: أنا الله أعلم، «الر» أنا الله أرى، «المص» أنا الله أفْصل. فالألف تؤدي عن معنى أنا، واللام تؤدي عن اسم الله، والميم تؤدي عن معنى أعلم.

   وقال الكلبي: هي أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها، وهي من أسمائه؛ عن ابن عباس أيضا.

   وقال بعضهم: «الم» أي: أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ.

   وقال قتادة في قوله: «الم» قال: اسم من أسماء القرآن.

   روي عن محمد بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلا نبي أو وليّ، ثم بين ذلك في جميع السورة ليفقّه الناس.

   وهذا كما ذكره القرطبي في تفسيره.

   وذكر ابن عجيبة أنه قيل: من أسماء نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فالميم مختصرة إما من المصطفى، ويدل عليه زيادة الصاد في (المص) "الأعرَاف:1" ، أو من المرسل ويدل عليه زيادة في الراء (المر) "الرعّد:1). و (الر) "الحِجر :1" مختصرة من الرسول، فكأن الحق تعالى يقول: يا أيها المصطفى، أو: يا أيها الرسول (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ) "البَقَرَة :2" أو هذا (كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ) "الأعراف: 2" أو غير ذلك، ويدل على هذا توجيه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم بعد هذه الرموز، و (كهيعص) "مريَم:1" مختصرة من الكافي والهادي والولي والعالم والصادق، و (طه) "طه:1" من طاهر، و(طس) "النَّمل:1" من يا طاهر يا سيد، و يا محمد في (طسم) "الشُّعَرَاء:1"، إلى غير ذلك.

   وعند أهل الإشارة يقول الحق جلّ جلاله: ألف: أفْرِدْ سِرَّك إِليَّ، انفراد الألف عن سائر الحروف، واللام: لَيِّنْ جوارحك لعبادتي، والميم: أقم معي بمحو رسومك وصفاتك، أزينك بصفاء الأنس والقرب مني.

     وقيل غير هذا من الأقوال، فالله أعلم.

العلماء بالتأويل كلهم علي حق لأنهم مجتهدون:

   ومن دروس الأدب التي نطالعها في (أسرار القرآن) درس الأدب مع العلماء بالتأويل؛ حيث يقول الإمام أبو العزائم في صدر تناوله لمعاني قوله تعالى: (الم) في صدر سورة البقرة: "معلوم أن العلماء بالتأويل تتفاوت مقاماتهم في العلم، فمنهم الراسخون فيه، ومنهم.. ، ومنهم..، ولكل فريق تأويل في هذه الآية الشريفة، وكلهم على حق لأنهم مجتهدون، والآيات الشريفة تتحمل كل تلك المعاني، وقول بعضهم: الله أعلم بمراده؛ كلمة يقولها كل مؤمن ولو أطلعه الله على مكنون العلم، قال الله تعالى: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) "البقرة: 255"فمن شاء الله أن يحيطه بشىء من العلم أحاط به، وعندي أن الله تعالى كشف تلك الحقائق لمن شاء ممن اجتباهم؛ فعلَّمهم ما لم يكونوا يعلمون".

   ثم يبيّن أن من هذا التأويل في قوله: (الم أن (الألف) إشارة إلى لفظة (أنا)، و(اللام) إشارة إلى (الله)، و(الميم) إشارة إلى كلمة (أعلم)، فكأنه سبحانه وتعالى يقول: (أنا الله أعلم)، أو: (أنا الله الملك)، ويكون قَسَمًا، كأنه سبحانه وتعالى يقول: (أقسم بي أنا الله الملك)، وما بعده جواب للقسم.

   ومن التأويل: أن (الم) اسم للسورة.

   ومنه أيضًا : أن (الم) إشارة إلى حروف الهجاء، وأن هذا الكتاب منها.

   ومن التأويل: أن (الم) آية متشابهة تقول للعقل: أنت عاجز لا تقوى على تحصيل العلم بمراده سبحانه إلا إذا وفقك للتقوى، وعلمك ما لم تكن تعلم، قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)"البقرة:282" فهي إشارة إلى سجود العقل عجزًا عن إدراك كلمة عربية مركبة من حروف الهجاء، وليس في ذلك التكليف ما لا يطاق، إنما فيه الحث على التمسك بتقوى الله تعالى، فإن المضنون به من العلم لا يُنال إلا بفادح المجاهدة، وكيف لا؟ والله تعالى يقول: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)"النحل:78".

   وعلى تلك الإشارة: (الم)، (المص)، (الر)، (حَم)، وغيرها فإن هذه أسماء الله تعالى، أو هي الاسم الأعظم، قال علىّ عليه السلام يوم حرب الخوارج: (حمعسق)، ودعا الله تعالى بالحديث الشريف: (أعوذ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ كلِّها مِن شرِّ ما خَلَق) وهذا الحديث يشير إلى أن كلمات الله التامات هي هذه الآيات الموضوعة في أوائل بعض السور، ولا يستعاذ إلا بأسماء الله تعالى، فهي أسماء الله.

   وتلك الأسرار العلية يعلمها أهل التقوى بطريق الإلهام إذا تطهروا بالتوبة حتى يحبهم الله تعالى لخضوعهم لسلطان الشريعة، ومجاهدتهم لأنفسهم مجاهدة تجعلهم مجانسين لعالم الطهر والصفاء عمار ملكوت الله الأعلى، فتنفتح لهم أبواب السماء للسياحة فيها، ليروا من آيات الله الكبرى ما تطمئن به قلوبهم، وتلوح لهم غرائب الحكمة، وأسرار بدائع إبداع الله تعالى، وهم الصِّدِّيقون والشهداء.

   ومن قصرت بهم هممهم عن التشبه بأهل المجاهدة؛ فالأوْلى أن لا يجمعوا على أنفسهم بين الحرمان من الخير؛ والإنكار على أهله؛ فإن الذين راضوا عقولهم بعلوم الرياضة: اخترعوا من الصناعات والفنون ما به طاروا في الجو، وغاصوا في البحار، بل واخترعوا من أنواع الصناعات ما حير العقول، واستعبد العباد، ودمر البلاد؛ فكيف بمن جاهد نفسه حتى زكت فجانست العالم الأعلى، وشهدة ما هنالك من بهاء وضياء ونور وجلال؟!.

   منحنا الله التسليم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والأدب مع القرآن المجيد، وفتح الله لنا كنوز القرآن وسقانا جرعة من شرابه الطهور، وأعاد لنا مجد سلفنا بالعمل به، إنه مجيب الدعاء.