حديث شريف

23/06/2021
شارك المقالة:

 

عن أنس رضي الله عنه قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه ومثل والجليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه )[سنن أبى داوود]

أجل صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وصدق الله العظيم محدثا عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ) فإن لكل حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شعاعا من النور يخرق سياج القلوب الغافلة بنور الحكمة البالغة ، التي تهدي إلى الرشد بكل معنى الكلمة ؛ لا بل هو دستور جامع لكل ما يحتاجه الفرد والجماعة في مناحي هذه الحياة المترامية الأطراف من الأسباب المسعدة للفرد وللجماعة ، بحيث أن الإنسان لو تمسك بأدب واحد من آداب هذه الأحاديث الشريفة لفاز بالحسنيين ، وسعد في الدارين سعادة تجعله قرير العين بما يفوز به في كلتيهما ، هذه حقيقة لا مراء فيها فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أوتي من جوامع الكلم بالقدر الذي تملك به ناصية الآداب الاجتماعية والأخلاقية ، وسما بالإنسان الساذج إلى أرقى مراتب الكمال في مرحلة واحدة لا غبار عليها من التدليس والتضليل ، فإن في كل حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القول الفصل في أمراض الفرد والجماعة ، والدواء الناجح لهما بما وضعه صلى الله عليه وآله وسلم من النماذج الحسنة ، والأمثلة الصادقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .

الإنسان بفطرته اجتماعي الطبع ، يألف الجماعة ، وينفر من الوحشة ، خلقه الله سبحانه وتعالى من ضعف قال تعالى : ( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفِ قُوَّةً ) وهذا الضعف هو الذي يضطره إلى تلمس المعونة من أشباهه ومجانسيه ، فتألفت من ثم روابط الأسر ثم القبائل والجماعات ، وهو لهذه الحاجة الماسة لابد له من جليس يجالسه ، وصاحب يرافقه في مراحل هذه الحياة ، إذن وجب على الإنسان أن يتخذ له فيها أخِلاء يتعاقدون على صفاء النية وحسن الطوية ، ويتوادون على الروح التي تبعث فيهم الجد والاجتهاد في نيل سعادة الفرد والجماعة .

والقارئ الكريم إذا تذوق طلاوة هذا الحديث الشريف وحلاوته علم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب المثل الصريح في اقتناء الصاحب والجليس الذي لابد للإنسان منهما ولا غنى عنهما .

فقال صلى الله عليه وآله وسلم - والأمثال تضرب للبيب ، وتقرب المرمى البعيد كأنه قريب ماثل أمام عينيك بغير كثير تفكير-  ( مثل الجليس الصالح كصاحب المسك ) ما أحلى هذا المثل الصغير في مبناه الجليل في معناه . الجليس الصالح كصاحب المسك ، لله هذا المثل وصلى الله وسلم على قائله ، فكم فاض من وراء هذا الينبوع العجب العجاب لعلماء الاجتماع ؛ فخدموا هذا الحديث الشريف في تفصيل مجمله بما جعله رحمة مهداة إلى العالم .

هذا الحديث يقرر فيه صلى الله عليه وآله وسلم قاعدة أصولية في أدب المجالسة ؛ هي الترغيب في مجالسة أهل الصلاح الذين صفت قلوبهم ، وتزكت نفوسهم ، فانطبعت جوارحهم بطابع الخير المحض ، فلا يصدر عنهم في حركاتهم ولا سكناتهم إلا ما تراه خيرا لك وللمجتمع ، ذلك هو الجليس الصالح ، لا يقع في أعراض الناس بغيبة ولا نميمة ، ولا يفحش في القول ، بل تراه هينا لينا موطأ الأكناف ، لا يشذ عن الوسط ، فلا تفريط ولا إفراط ، يهذبك بحاله وقاله كما نفحك صاحب المسك بطيبه ، ويصقل مرآة نفسك بالعبر التي يسردها عليك من بطون الحوادث والحكم التي تنفذ إليها بصيرته بنور الذوق والمنطق السليم ، هذا هو الجليس الصالح ، ولا مراء في أن هذا المثل منطبق تمام الانطباق على الحقيقة المرجوة منه ، وأي شيء أكبر نفعا لهذا النوع الإنساني من هذا الجليس ، فطوبى لمن جالس أهل الصلاح والتقوى ، فإنهم كما ذكرهم الحق سبحانه في الحديث القدسي : "هم القوم لا يشقى جليسهم" .

وأما جليس السوء والعياذ بالله تعالى فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفه فيما يناله مجالسه من تبعاته كصاحب الكير ، فإنك إن جالسته ولم يصبك سواده وهو الفحم الذي ينفخ فيه ؛ أصابك دخانه الذي يكتم الأنفاس ويزهق الأرواح ، وكم في هذا التحذير عن مخالطة جلساء السوء ما فيه بما يغني العاقل اللبيب عن ذكر مساويه .

نظرة تحليلية

جليس السوء ووجه تشبيهه صلى الله عليه وآله وسلم بصاحب الكير .

لقد ذكر الحكماء كثيرا عن جليس السوء ؛ فما خرجوا في تشبيهاتهم المختلفة له عن دائرة ضيقة لم تستوعب ما ينتاب الفرد من هذا الجليس ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفه موجزا ، فأبلغ في الإيجاز إلى حد تلمس الحقيقة الناصعة من وراء هذا الوصف ، فصاحب الكير الذي هيأ نفسه لهذا العمل في ملبسه لا يضره ما ينال مجالسه من سواد الفحم الذي ينفخ فيه ، وشرار النار الذي يتصاعد منه ، وهذا الجليس السوء ينفث في أذن مجالسه بما يوغر صدره من أعز الناس إليه ولو كان ذلك كذب وافتراء ، ولا غرّو فهذه صناعته وتجارته ومنتهى ما وصل إليه من البحث والتنقيب في الغدر والتنكيل بمجالسه بصورة قد تكون محببة إلى نفس مستمعه ، كالأفعى لينة الملمس ولكن من وراء أنيابها السم الزعاف ، لا بل هو الشيطان الرجيم في صورة إنسانية . فكم تهدمت صروح للمجد عالية وبيوت عامرة وأسر كبيرة بعبث هذا الجليس ، وكم تقوضت دعائم ممالك بادت معالمها ، وانقرضت آثارها ، وأصبحت في خبر كان ، من وراء هذا الجليس ، وكم تهتكت حرائر ، وانفطرت مرائر ، وترملت نساء ، وهلكت إماء من وراء هذا الجليس ، تجلس إليه فيعجبك من حديثه إخلاصه لك ، وإسداء نصيحته إليك ، فإذا ما وجد منك أذنا صاغية أكثرَ من ذكر مساوئ أقرانك ومنافسيك ، وربما كنت خاليا من الغل والحقد والحسد فيبذرها جزافا ، حتى تتشبع بها نفسك ، فإن كنت حليما ذا أناة غلي مرجل[1] صبرك فانفجر عن كراهية من تحب وظهرت عليك علامات الغيظ والحقد ، واشتم منك ذلك الصاحب أو الخليل دخان البغضاء والشحناء ، وهناك الطامة الكبرى التي تحيق بالماكرين ، وتصب لعناتها على المتباغضين ، فهل هناك من شر على المجتمع شر من هذا الجليس ، لا وربي إنه وباء إنّي تخيلته من جميع نواحيه ، وبلاء على المجتمع أضر عليه من النار في الحطب الهشيم إذا اندلعت فيه ، فتبا له من خليل ، وتعسا له من جليس ، والله أسأل أن يحفظ إخواني المسلمين من هذا الجليس ، ويوفقنا أن نتخذ الجليس الصالح ، حتى يصلح الفرد ، ومتى صلح الفرد صلح المجتمع .

والله الموفق إلى سواء السبيل .

 

من تراث مجلة المدينة المنورة

يوم الجمعة 3 جماد الثانى سنة 1355 هـ الموافق أغسطس 1936 م

 

[1] - قِدر يغلى فيه الماء . .