التوبة والإنابة والأوبة

23/06/2021
شارك المقالة:

   يقول الإمام المجدد السيد محمد ماضى أبو العزائم رضى الله عنه ونفعنا بعلومه:

"التوبة هى الإقلاع عن الباطل قولا وعملا واعتقادا، والرجوع إلى الحق قولا وعملا واعتقادا".

الشرح والتوضيح :

   التوبة هى أصل كل مقام، ومفتاح كل حال، فمن لا توبة له لا مقام له، وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتوبة فقال سبحانه:

(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور :31].

   والإمام أبو العزائم فى هذه الحكمة يعرف لنا التوبة، وهو يريد أن يقول إن التوبة ليست بالكلام - تقع فى الذنب وتقول: تبت إلى الله وفقط - وإنما التوبة إقلاع عن الباطل ورجوع إلى الحق، والإقلاع هو الترك مع العزم على عدم العود، فمن أراد التوبة الصادقة فلابد أن يترك الذنب ويعزم على عدم العودة إليه أبدا.

   قوله: "الإقلاع عن الباطل قولا وعملا واعتقادا" وهذه الثلاثة منصوبة على نزع الخافض، والأصل الإقلاع عن الباطل فى القول وفى العمل وفى الاعتقاد، والرجوع إلى الحق فى القول وفى العمل وفى الاعتقاد.

   وهذه الحكمة جاءت على طريق اللف والنشر المرتب، ومعنى اللف والنشر المرتب هو إجمال الشىء ثم تفصيله، مثل أن تقول: أحمد وإبراهيم وعلى المهندس والطبيب والخطيب، فأنت تريد أن كل واحد من الجملة الأولى يقابله وصفه من الجملة الثانية على الترتيب، لكنك جئت بها على طريق اللف والنشر، وهذا هو ما فعله الإمام رضى الله عنه فى هذه الحكمة، فهو يريد أن يقول: الإقلاع عن الباطل قولا والرجوع إلى الحق عملا، والإقلاع عن الباطل عملا والرجوع إلى الحق عملا، والإقلاع عن الباطل اعتقادا والرجوع إلى الحق اعتقادا، وكأن التوبة فى نظر الإمام لابد وأن تكون بالقلب واللسان والجوارح فلابد من وجود الثلاثة فى التوبة حتى تكون توبة صادقة.

   أن تقلع عن الباطل فى القول كالكذب والغيبة والنميمة وذكر أعراض الناس والهمز واللمز، وتستبدله بالرجوع إلى الحق فى القول كقراءة القرآن وذكر الله وقراءة سيرة سيدنا رسول الله وأهل بيته، وتقلع عن الباطل فى العمل كإيذاء الناس والسرقة والزنا، وتستبدله بالرجوع إلى الحق فى العمل كمعاونة الناس ونصرة المظلوم ومساعدة الضعيف وغير ذلك، وتقلع عن الباطل فى الاعتقاد وهو الكبر والحسد والنفاق والبغضاء وغير ذلك، وتستبدله بالرجوع إلى الحق فى الاعتقاد مثل محبة الناس وحب الخير لهم والصدق فى العزيمة.

    فمثلا معصية كالكذب: كيف تتوب عنها توبة صادقة ؟

لابد وأن تتوب عنها قولا وعملا واعتقادا، قولا بأن تستغفر الله وتقول: تبت إلى الله، وعملا بأن تتركه وترجع إلى الصدق، واعتقادا بأن تعزم على عدم العودة إليه أبدا وأن تندم على الوقت الذى مر عليك فى هذه المعصية.

ولذلك يقول الإمام أبو العزائم فى كتابه الفرقة الناجية:

"ولا تقشعر الجلود ولا تميل القلوب للتوبة إلا بولاية من الله سبحانه وتعالى للعبد، وعلم يتفضل به عليه يكشف له به الستار عن الباطل وقبحه، وعن الحق والخير الذى ينال به الفوز، حتى تحل الرغبة فيه - أى فى الحق - محل الرغبة عنه - أى الحق والخير - مثل الرجل الذى جاء إلى رسول الله وأخذ يتحدث معه، ثم قام وقال: والله لقد جئت إلى محمد وما فى قلبى أبغض إلى منه، وإنى أقوم من عنده وما فى قلبى أحب إلى منه والمسارعة إلى الخير محل المسارعة إلى الباطل.

   وعندما يتمثل السالك قبح عمله وسوء فعله وما فاته من الخير العظيم فى زمان معصيته وما ارتكبه من الإثم العظيم وتعديه حدود ربه سبحانه وتعالى، ويتمثل ما كان يناله من الخير - أى لو لم يفعل الباطل - وما اكتسبه من الآثام - أى بتركه الحق واشتغاله بالباطل - فتضيق عليه الأرض بما رحبت، ويخرج بالعزم من عوائده ومألوفه ومخالفة أمر ربه، وتضيق عليه نفسه فيفر منها إلى الله تعالى بالحزن والندم الشديد، حتى تهب عليه نسمات وسعة الفضل العظيم وشامل الرحمة ونور غافر الذنب وقابل التوب فتتروح نفسه".

   واعلم أن الصوفية يفرقون بين ثلاثة مصطلحات: التوبة - الأوبة - الإنابة.

   قال أبو على الدقاق: الرجوع إلى الله على ثلاثة أقسام، أولها التوبة، وأوسطها الإنابة، وآخرها الأوبة، فكل من تاب لخوف العقوبة فهو صاحب توبة، ومن تاب طمعا فى التوبة فهو صاحب إنابة، ومن تاب مراعاة للأمر لا لرغبة فى الثواب أو رهبة من العقاب فهو صاحب أوبة.

   وشتان بين توبة محب مشتاق، وبين من تاب للخوف والإشفاق، حيث الأول قد أهاجه الشوق إلى شهود الجمال، والثانى قد أزعجه الخوف من سطوة الجلال.

   ويقال: التوبة صفة المؤمنين؛ قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ)، والإنابة صفة الأولياء والصالحين؛ قال تعالى: (وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ)[ق : 33]، والأوبة صفة الأنبياء والمرسلين؛ قال تعالى عن سيدنا داود عليه السلام: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص:30].

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.