قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ"2")

25/06/2021
شارك المقالة:

 

ما المقصود بالكتاب؟:

      (ذَلِكَ الْكِتَابُ) قيل: المعنى هذا الكتاب، و (ذلك) قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب، فـ «ذلك» إشارة إلى القرآن، موضوع موضع: هذا.

    واختُلِفَ في ذلك الغائب - كما أورد القرطبي - على أقوال عشرة، فقيل:

   1- (ذَلِكَ الْكِتَابُ) أي: الكتاب الذي كتبتُ على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق لا ريب فيه، أي: لا مبدل له.

   2- وقيل: (ذَلِكَ الْكِتَابُ) أي: الذي كتبتُ على نفسي في الأزل (أن رحمتي سبقت غضبي) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده أن رحمتي تغلب غضبي) في رواية: (سبقت).

   3- وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد نبيه عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان) الحديث.

  4- وقيل: الإشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة.

  5- وقيل: إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) "المزمل:5" لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشرفا "وفي النسخة: مستسرفا" لإنجاز هذا الوعد من ربه عز وجل، فلما أنزل عليه بالمدينة: (الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه) "البقرة: 1-2" كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة.

  6- وقيل: إن (ذلك) إشارة إلى ما في التوراة والإنجيل، و (الم) اسم للقرآن، والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل، يعني أن التوراة والإنجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما.

  7- وقيل: إن (ذَلِكَ الْكِتَابُ) إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما، والمعنى: الم ذانك الكتابان أو مثل ذينك الكتابين، أي: هذا القرآن جامع لما في ذينك الكتابين، فعبر بـ «ذلك» عن الاثنين بشاهد من القرآن، قال الله تبارك وتعالى: (إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) (البقرة:68) أي: عوان بين تينك: الفارض والبكر.

  8- وقيل: إن (ذلك) إشارة إلى اللوح المحفوظ، وقال الكسائي: (ذلك) إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد.

  9- وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتابا، فالإشارة إلى ذلك الوعد، قال المبرد: المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا.

  10- وقيل: إلى حروف المعجم في قول من قال: (الم) الحروف التي تحديتكم بالنظم منها.

لماذا أشار الله إلى القرآن بما يدل على البُعد؟:

يبين الإمام أبو العزائم أن الحكمة من استخدام لفظ (ذلك) من قِبَل الحق سبحانه له دلالة خاصة؛ وهذا ما بيّنه رضى الله عنه  بقوله: " قوله تعالى:( ذَلِكَ الْكِتَابُ) أشار سبحانه وتعالى إلى الكتاب باسم الإشارة الدال على البعد، مع أن الكتاب قريب من الذاكرة، فأشار إليه بما يدل على البعد؛ لعلو مكانته؛ أو لعظمة منزلته سبحانه، والكتاب هنا هو القرآن".

   وقيل في معنى قوله تعالى: «لاَ رَيْبَ فِيه» نفي عام، وفي الريب معان:منها: الشك، و: التُّهَمَة، والمعنى: أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله، وصفة من صفاته، غير مخلوق ولا محدث، وإن وقع ريب للكفار.

   وقيل: هو خبر ومعناه النهي، أي: لا ترتابوا، وتم الكلام كأنه قال ذلك الكتاب حقا.

   ويشير رضى الله عنه  إلى أن معنى) لاَ رَيْبَ( أي: لا شك، والريب هو شك مع سوء ظن، ومعنى انتفاء الريب عنه: كمال التحقيق بأنه منزل من عند الله تعالى وأنه صحيح ومعجز، وتلك الحقائق معترف بها من أعدى أعداء القرآن؛ لأن فطاحل الفصحاء من سادات العرب عجزوا عن أن يأتوا بسورة من مثله، وعجزهم هذا حجة قاطعة على عجز غيرهم من العالم أجمع بالأوْلى.

   أما قوله تعالى: (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) فقد ورد أن الهدى في كلام العرب معناه الرشد والبيان، أي: فيه كشف لأهل المعرفة ورشد وزيادة بيان وهدى، والهدى هُديان: هدى دلالة، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: (ولكل قوم هاد) "الرعد:7"، وقال: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) "الشورى:52" فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد هو سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تهدي من أحببتَ) "القصص:56" فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب.

الدّلالة حجة لِمَن سبقت لهم الحُسْنَى وحجة عَلَى غيرهم:

ويزيد رضى الله عنه  في تفسيره "أسرار القرآن" الأمر بيانا؛ وهو أن القرآن هدى للعالمين، كما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، والهدى: هو الدلالة والبيان، والقرآن دال مبين، وإن كانت الدلالة لا تقتضي لذاتها نيل البغية ولا الوصول إلى الغاية المنشودة؛ لأن الله جل جلاله جعل الدلالة حجة لمن سبقت لهم منه سبحانه الحسنى، وجعلها حجة على من سبقت لهم السوءى فصدهم الشيطان عن السبيل، فالكتاب الكريم دال مبيّن، موصل للبغية في الحقيقة ونفس الأمر، ولكن من أعمى الله بصائرهم وجعل في آذانهم وقرًا وعلى أبصارهم غشاوة؛ يكون عليهم عمى.

التقوى وأنواعها:

   ثم يعرّف التقوى بأنها خوف يهجم على القلب؛ يجعله يراعى الأدب خشية الوقوع في الغضب، والتقوى لغة: هي الوقاية من الوقوع فيما يضر دنيا أو دينًا، وهي أربعة أنواع:

1- تقوى النار: قال سبحانه: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)"البقرة:24".

2- وتقوى اليوم: قال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)"البقرة:281".

3- وتقوى الرب: قال جل جلاله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ)"الحج:1".

4- وتقوى الله تعالى: قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ)"آل عمران:102".

   ثم يبيّن نوعا آخر من أنواع التقوى وهي: السياسة الحكيمة التي يراعيها أهل الرحمة في أخلاقهم ومعاملتهم لدوام الصفاء ومداراة الناس. أما السياسة التي هي الخديعة والكيد: فهي من أخلاق الشياطين، وكم دمرت مدنًا، وأبادت أممًا، حفظنا الله من شرور أهلها.

   وتقوى كل مسلم بحسب مقامه:

   فهي عند العصاة: التوبة النصوح.

   وعند العلماء: الخشية من الله تعالى.

   وعند أهل مقام الإحسان: مراقبة جلال الله تعالى وعظمته سبحانه، حتى يكون المتحقق بمقام الإحسان كأنه في معية الله تعالى يراه حقيقة، أو يعتقد أن الله يراه.

   ويتساءل رضى الله عنه  قائلا:ومسلم يعتقد أن الله معه بعلمه وسمعه وبصره؛ كيف يغفل عن ذكره، أو يتعدى حدوده ؟!.

   ويبين بعد ذلك أن تقوى أهل مقام الإيمان في معنى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)"آل عمران:102"  هى: أن توحد الله فلا تجحده، وأن تشكره فلا تكفره، وأن تطيعه فلا تعصاه، وأن تذكره فلا تنساه، وهي التقوى التي منحها الله رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام وورثتهم، وهي عندهم أيضًا: انكسار القلب بين يدي مقلب القلوب والأبصار، ودليل ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)"الأحزاب:70". فلكل مسلم مقام في التقوى.