التوبة وارد من الحق على الخلق ، وهو لأهل مشاهد التوحيد

03/07/2021
شارك المقالة:

 

الشرح والتوضيح :

الوارد هو ما يرد على القلب من الخواطر المحمودة مما لا يكون بتعمد العبد ، فهو كلام يفهمه العبد من غير صوت ، فهو تلقى في قلبه من الله تعالى ( فهو كالإلهام ) .

والإمام رضي الله عنه يقصد بهذه الحكمة الإشارة إلى وحدة الأفعال . وحاصلها أن لا ترى لغير الله فعلا من الأفعال .

فالتوبة هي وارد من الحق على الخلق ، أي أنها منه تعالى لا من العبد ، فالصوفي التائب يشهد فضل الله عليه بتوفيقه للتوبة وهدايته إليها .

فحقيقة التوبة هي أن يتوب الله على العبد أولا فيوفقه للتوبة لأنه لا مؤثر إلا الله ، فقد روي أنه جاء رجل إلى السيدة رابعة العدوية وقال لها : " لقد فعلت الذنوب والمعاصي صغيرها وكبيرها فهل لو تبت أيتوب الله علىّ " فقالت رضي الله عنها – مشاهدة للتوحيد الكامل - : " لا ! بل لو تاب عليك لتبت " قال تعالى : " ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا "

ولذلك يقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه في كتاب الفرقة الناجية : " فالتوبة هي أولا يتوب الله على العبد بما يرد عليه منه سبحانه من نور العلم الذى يُشعِرُ قلبه بفضل الله عليه ، وحسن عنايته به في الدنيا والآخرة ، ويشهده سوء صنيعه مع الله سبحانه وتعالى وظلمه لنفسه بمخالفته أمره سبحانه فيقبل تائبا على ربه بتوفيقه ، وإذا لم تسبق التوبة من الله للعبد فضلا منه وكرما لم يستطع العبد أن يتوب إذ لا حول ولا قوة إلا بالله " .

فهذه هي التوبة عند أهل مشاهد التوحيد الذين لا يرون لغير الله فعلا من الأفعال ، وهذا ليس مذهبا تفرد به الصوفية ، بل هو مذهب أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية ، فإنهم يقولون : لا مؤثر إلا الله . كما قال سيدي الدردير في الخريد :

فالتأثير ليس إلا للواحد القهار جلّ وعلا .

فعندهم أن العبد ليس له فعل من الأفعال ، فالله تعالى هو الذي يخلق أفعال عبده الاختيارية والاضطرارية . كما قال تعالى : " وَاللَهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ " .

فبناء على هذا فإن الذي خلق للعبد القدرة على الطاعة هو الله تعالى ، ولو لم يخلقها ما استطاع العبد أن يتوب ، وهو المسمى عند الأشاعرة بالتوفيق .

ولذلك قال الإمام رضي الله عنه فلو لم تسبق التوبة من الله للعبد – فضلا منه وكرما – لم يستطع العبد أن يتوب ، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله .

ومن هنا نفهم قول الحارث المحاسبي رضي الله عنه : " ما قلت قط : اللهم إني أسألك التوبة ولكني أقول : أسألك شهوة التوبة " .

وشهوة التوبة هذه هى التي عبر عنها الإمام بالوارد ، فتكون التوبة وارد من الحق على الخلق ، وهو ( أي هذا الوارد ) لأهل مشاهد التوحيد ، أي الذين تحققوا بالتوحيد الكامل ، وهو أن لا ترى فاعلا فى هذا الوجود إلا الله تعالى . فلا تحجبك النعم عن المنعم ، ولا الرزق عن الرازق ... وهكذا تكون مشاهدا لله تعالى في كل أفعالك وحركاتك وسكناتك .

 ويقول رضي الله عنه :

تب سيدي هب لي المتاب تولني

بالفضل منك وبالجمال الشاملِ

وقال أيضا رضي الله عنه :

تب علينا يارب حتى نتوبا

توبة المخلصين تمحو الذنوبا

وحاصل ما سبق ؛ أي توبة العبد إلى الله محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها ، وتوبة منه بعدها ، فتوبة العبد بين توبتين من ربه سابقة ولاحقة ، فإن الله تعالى تاب عليه أولا إذنا وتوفيقا وإلهاما ، فتاب العبد ، فتاب الله عليه ثانيا قبولا وإثابة ، قال تعالى : " لَقَدْ تَابَ اللَهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ، وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " .

فأخبر الله تعالى أن توبته عليهم سبقت توبتهم ، وأنها هي التي جعلتهم تائبين ، فكانت سببا مقتضياً لتوبتهم ، فدل ذلك على أنهم ما تابوا حتى تاب الله عليهم ، والحكم ينتفي لانتفاء علته .

وهذا القدر من سر إسميه " الأول " و " الآخر " فهو البعد عن الممد ، ومنه السبب والمسبب ، وهو الذي يعيذ من نفسه بنفسه ، كما قال أعرف الخلق به صلى الله عليه وآله وسلم : " وأعوذ بك منك " .

 والعبد تواب ، فتوبة العبد : رجوعه إلى سيده بعد الإباق .

وتوبة الله نوعان :

  1. إذن وتوفيق
  2. قبول وإمداد

فالتوبة وارد من الحق على الخلق وهي لأهل مشاهد التوحيد . وقد أشار إلى هذا الإمام رضي الله عنه في حكمة أخرى فقال : " التائب إلى الله إذا شهد عمله في توبته ، واعتقد أنه أورد هذا العمل على الله بحوله وقوته فهو مشرك شركا خفيا .

فأهل مشاهد التوحيد فانون عن أنفسهم باقون بربهم ، فإن ظهرت منهم طاعة فالمنة لله ، وإن ظهرت منهم معصية اعتذروا لله أدبا مع الله ، لأنهم بالله ولله وهم أهل (لا حول ولا قوة إلا بالله).