من سورة البقرة : آية 23

11/07/2021
شارك المقالة:

 

   (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ) أي: في شك (مِّمَّا نَزَّلْنَا) يعني القرآن، والمراد المشركون الذين تُحدوا، فإنهم لما سمعوا القرآن قالوا: ما يشبه هذا كلام الله، وإنا لفي شك منه؛ فنزلت الآية، (عَلَى عَبْدِنَا) يعني محمد صلى الله عليه وآله وسلم، (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) هو أمر معناه التعجيز، لأنه تعالى عَلِم عجزَهم عنه.

   والضمير في (مثْلِه) عائد على القرآن عند الجمهور من العلماء، كقتادة ومجاهد وغيرهما، وقيل: يعود على التوراة والإنجيل، فالمعنى: فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه، وقيل: يعود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ المعنى: من بشر أميٍّ مثله لا يكتب ولا يقرأ.

  (وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم) معناه أعوانكم ونصراءكم وآلهتكم التي تزعمون أنها تشهد لكم يوم القيامة، أو من حضركم من البلغاء والفصحاء ممن تنتصرون به، أحضروهم ليشاهدوا ما تأتون به ويشهدون أنكم عارضتم كلام الله سبحانه (مِّن دُونِ اللّه)ِ أي: من غيره (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة، لقولهم في آية أخرى: (لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا) "الأنفال:31".

    وفي تفسير الإمام لهذه الآية نطالع في (أسرار القرآن) ما يلي:

القرآنُ أقام الحُجَّة:

   أقام القرآن المجيد الحجة البيضاء على كمال توحيده سبحانه وتعالى؛ فوضحت الدلائل التي لا يقبل الله تعالى من عبد صرفًا ولا عدلاً إذا لم يفقه ما أتى به القرآن في توضيح حجج التوحيد، فهو سبحانه الذي يُحدِث الأشياءَ صغيرها وكبيرها بعد أن لم تكن، وجعل كل ما في الكائنات نافعا للإنسان، فلو فقدت حقيقة من حقائق الكون كالهواء والمطر والشمس والنبات؛ بل وعنصر التراب - لمُحِيَ الإنسان، وخَلَقَنا سبحانه وسَخَّر لنا كلَّ شيء في السموات والأرض جميعًا منه، أعاذنا الله تعالى وإخوتنا المؤمنين من الكفر بنعمة الله، ومن إنكار حُجَج الله وبيناته، بعد أن أقام الله تعالى الحُجَج الناصعة على أنه تفرد بالألوهية.

   ولما كانت الحُجَج على وحدانيته تليها في الرتبة دلائل النبوة؛ ابتدأ الله تعالى إقامة الحُجَج على إثبات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى: "وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ".

   وقد ثبتت رسالة خاتم الأنبياء بالمعجزات التي لا تحصى عدًّا كشق القمر، وجرى الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وآله وسلم، ورده عين قتادة بعد أن فقئت في غزوة أُحد فصارت خيرًا من الثانية، وقد أجرى الله على يده من المعجزات المحسوسة للحس ما لا يحصي.

   ولكن الله سبحانه وتعالى لما قدَّر أن يكون هو خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يَتَحَدَّ بشيء من تلك المعجزات الباهرة المحسوسة، لأن قَدْرها في تنويع الأفكار لا يؤثر بالمعنى المطلوب إلا على مَن شهدها، وكم أضلت معجزات الرسل أممًا، فإن عيسى عليه السلام لما أن أحيا الميت قال له بطرس -أحد حوارييه- :أنت الله، فاشتد غضب المسيح عليه السلام لأن المعجزة أثرت على بطرس تأثيرًا أخرجه عن حد الاعتدال، وكثير من اليهود يدَّعون أن (العزير) هو ابن الله؛ لما أماته الله مائة عام ثم بعثه، وقد أضل السامريُّ بني إسرائيل بالعجل الذي صنعه من الذهب المسروق من آل فرعون، وأمثال هذا كثير.

   فتحداهم بالقرآن المجيد الذي هو معجزته الحقيقية صلى الله عليه وآله وسلم، وهو المعجزة التي لا تزال بهجتها تزداد، ونورها يسطع، يُعجز اللهُ به كلَّ جبار عنيد، وتخشع له القلوب إذا تُلي، ويسجد له العقل إذا قرئ، وتأنس به الأرواح إذا رتل.

   بيَّن الله لنا فيه ما لابد لنا من معرفته، وأشهدنا فيه جميل أوصافه ونور أسمائه، وجمع لنا فيه العبادات، والآداب، والمعاملات، والأخلاق المحبوبة لحضرته، فهو المعجزة القائمة لإخراج العالم من ظلمة الشرك والجحود، إلى SA أسمائه،

نور التوحيد والإيمان، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، ورحمة الله بالعباد، جعل الله كتابه المنزل عليه معجزته التي يقيمها حُجة على كل منكر مرتاب.

   وقد عجز -واللهِ- فرسانُ البلاغة وفحول الفصاحة -ممن كان كبار الفصحاء يسجدون لكلامهم المعلق على الكعبة عن أن يأتوا بأقصر سورة منه، وكيف لا؟ وهذه الآية تنادي بأفصح بيان: يا من تعاندون رسولي وتكذبونه وتحاربونه: اجتمعوا وأجمعوا أمركم وأتوا بسورة من مثله.

 والقرآن أعجز مِن جميع العالم- مَن اللغةُ لغتُهم، والبيان بيانهم، فكيف يدعي رجل -ربما كان من أبوين أعجمين- أن العرب كان يمكنهم أن يأتوا بسورة من مثله ولكنهم لم يجتمعوا لذلك؟! إذا كان من يقول هذا مسلوب العقل، فكيف بمن يقوم في هذا الزمن من أهل القطيعة والبعد يكذب خبرًا من أخبار القرآن؟!.

القرآن الكريم دعوى وحجة:

   القرآن الكريم دعوى وحجة، ولم يسبق لرسول من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام- أن الله تعالى نزل عليهم كتابًا هو دعوى وحجة في آن واحد، ففي القرآن الكريم علم التوحيد والمواعظ والعبادات والبشارة والنذارة والأخلاق والتاريخ والعبر، وفيه تدبير الإنسان منفردًا، وتدبير العائلة مجتمعة، وتدبير المجتمعات، فهو: معجزة، وكتاب.

الفرق بين الإنزال والتنزيل:

   قوله تعالى: (نَزَّلْنَا) معناها: أن القرآن نزل نجومًا، آيات بحسب الأحداث، لأنه لم يقل سبحانه: أنزلنا؛ لأن الإنزال: نزول الشيء دفعة واحدة، وأما التنزيل: فهو نزول الشيء مرة بعد أخرى.

العبودية أشرف الأوصاف وللأمة قسط وافر من عناية الله تعالى:

   ولفظ: (عَبْدِنَا) أشرف وصف يصف به الله خير أحبابه، وهي الكلمة التي حفظت بها قلوب المسلمين من أن يتجاوز أحد الأدب مع الله تعالى في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا نتجاوز بحبيبنا صلى الله عليه وآله وسلم مقام العبودية، الأمر الذي به نجاتنا، وكم زلت أقدام الأمم السابقة فجعلوا الأنبياء أو ورثة الأنبياء في مقام الألوهية أو الربوبية، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين جميعًا.

   وقوله تعالى: (عَبْدِنَا) بـ (نَا) التي هي للتعظيم؛ إشارة إلى تفريد خاتم المرسلين بمقام الإعظام والإجلال، وإذا كان المتبوع في أرقى مقامات القرب والحب من الله تعالى؛ فإن أتباعه يفوزون بقسط وافر من تلك العناية.

يقول الإمام نظما في صدر قصيدة له:

داعِي العنايةِ مِن أزلٍ ينادينــا

والمصطفى لصراطِ اللهِ يهدينــا

في عهد يوم "أَلَسْتُ" أشرقَتْ علنا

تلك العنايةُ بالحُسْنَى توالينـــا

قد أنعمَ اللهُ بالحُسْنَى لنــا أزلا

حتى خُصِصْنَا بخيرِ الرسلِ هادينا