من سورة البقرة : آية 25

01/08/2021
شارك المقالة:

   لما ذكر الله عز وجل جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أيضا، والتبشير: الإخبار بما يظهر أثره على البشرة -وهي ظاهر الجلد لتغيرها بأول خبر يرد عليك- ثم الغالب أن يستعمل في السرور مقيدا بالخير المبشر به، وغير مقيد أيضا، ولا يستعمل في الغم والشر إلا مقيدا منصوصا على الشر المبشر به، قال الله تعالى: (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) "آل عمران:21".

العقيدة الحقة التي تكفى في نجاة الإنسان يوم القيامة:

   (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ) الذي يبشر هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وورثته من بعده، والذين آمنوا المراد بهم الذين صدقوا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم (وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ) يشير إلى المؤمنين، لأن شعب الإيمان بضع وسبعون شعبة، كل واحدة منها عمل صالح، وهذه الآية دلت دلالة صريحة على أن الإيمان الذي هو التصديق بالقلب لا يكفى في النجاة، بل لابد من العمل الصالح، فالإيمان والإسلام سواء.

   وما ورد عن كثير من علماء القلوب أنهم يقولون إن العقيدة تكفى في نجاة الإنسان يوم القيامة؛ فمعنى قولهم رضي الله عنهم؛ أن العقيدة التي بلغت رتبة العين تؤثر على المعتقد تأثيرًا قويًا، حتى لا يخالف الشريعة في نفَس ولا أكثر، فأهل القلوب بلغ بهم اليقين الحق مبلغًا كأنهم يرون الله تعالى، وأقل مراتب اليقين أن يرى الإنسان النار والجنة وما يقرب منهما، وما يبعد عنهما، كما قال تعالى: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) "التكاثر:5-6".

   ولا يجوز لمن جهلوا الأدب مع الله تعالى ثم مع خلقه أن يصدروا أحكاما بالتكفير على غيرهم من المسلمين بسبب فرعيات لا يؤدي تركها إلى تلك الأحكام الجائرة عليهم بالتكفير والتشريك والتبديع، فيتسبب هؤلاء المكفِّرون في تنفير الخلق، ويفتحون باب الفتن على مصراعيه، ويحكمون على الله الذي يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) "الأنعام:57" تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

تصديق البشرى شئ وطمأنينة القلب شيء آخر:

   لما كانت البشرى من الله تعالى تقتضي أن المبشَّر به مناسب للمعطى الوهاب سبحانه، والله يعلم أن القلوب تحب الطمأنينة بهذه البشرى افتتح كلامه بقوله: "أنَّ" التي تؤكد الخبر، وتجعله يقينًا، كما قال الخليل عليه السلام: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) "البقرة:260" بعد أن بشره الله تعالى بأنه خليله، فتصديق البشرى شئ، وطمأنينة القلب شيء آخر.

من جمالات الجنة ونعيمها:

   يقول الله تعالى مخبرا عما أعده لأهل الإيمان: (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) والجنة: هي بستان التفت أشجاره حتى سترت من بداخلها عن خارجها، وكملت كمالاً ابتهج به الرائي، وتمتع به المحتاج، ولفظ (جَنَّاتٍ) في الآية الكريمة يشير إلى أن لكل مؤمن جنة خاصة، ربما كانت أوسع من الأرض جميعًا، كما قال سبحانه: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) "آل عمران:133" وتلك الجنة آهلة بما بينه سبحانه في القرآن المجيد من المقصورات والخيام، وأنهار من ماءٍ ولبن وخمر وعسل، ومن حور وولدان، وزوجات مطهرات، ونعيم مقيم.

   ولابن عجيبة في هذه الآية الكريمة إشارة؛ أن للصديقين البشرى بأن لهم جنات المعارف في الدنيا، وجنات الزخارف في الآخرة، تجري من تحت قلوب أهلها أنوار العلوم والمعارف، فإذا كشف لهم يوم القيامة عن أسرار ذاته، قالوا: هذا الذي عرفناه من قبل في دار الدنيا، إذ الوجود واحد والمعرفة متفاوتة، وأُتُوا بأرزاق المعارف متشابهة؛ لأن مَنْ عَرَفه في الدنيا عرفه في الآخرة، ومَن أنكره هنا أنكره يوم القيامة، إلا في وقت مخصوص على وجه مخصوص، ولهم في جنات المعارف عرائس المعارف والكشوفات، مطهرات من أدناس الحس وعبث الهوى والشهوات، وهم بعد تمكنهم من شهود الذات؛ خالدون في عُشّ الحضرة، فيها يسكنون وإليها يأوون.

   وعن القشيري: كما أن أهل الجنة يجدد لهم النعيم في وقت، فالثاني عندهم على ما يظنون كالأول، فإذا ذاقوه وجدوه فوق ما تقدم، فكذلك أهل الحقائق: أحوالهم في السرائر أبداً في الترقي، فإذا رقي أحدهم عن محله، توهم أن الذي سيلقاه في هذا النَّفس مثل ما تقدم، فإذا ذاقه وجده فوق ذلك بأضعاف، كما قال قائلهم:
                 ما زِلتُ أنزلُ مِنْ وِدادِكَ مَنْزِلاً            تَتحَيرُ الألبابُ عِندَ نُزُولهِ

   والإمام أبو العزائم يجعلنا نتمثل ما في هذه الآية؛ بأن المؤمنين لما سمعوا قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ) تشوقوا إلى تلك البشرى من الله تعالى وتحققوا أنها كمال النعمة، فقال سبحانه: (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) أي: بساتين، وهم في تلك الدار الدنيا في عناء من تحمل الشدائد في سقى البساتين، وخصوصًا في زمن تحكم فيه من لا رحمة في قلوبهم، فأزال الله من قلوبنا ما خطر بها بقوله: (تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) ولكن تذكرنا أن تلك الأشجار تثمر ثمرًا من محفوظ النوع والطعم والرائحة، وذلك يجعل مستعمله ربما يمل منه، فأغاثنا الله وأزال ما خطر بقلوبنا فقال تعالى: (كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً) وإذا به كالذي رزقوا من قبل لونًا وشكلاً لا رائحة وطعمًا، فتمت المسرة والابتهاج، وتمت محبتهم في المتفضل عليهم لمزيد إحسانه، فتتجدد لهم المسرة والحبور في كل نفَس بما لم يكن يخطر على بالهم، ولا سبق لهم أن تمتعوا به من قبل.

   ويمكن القول بأن (هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ) أي: بُشِّرنا به، بمعنى: وُعِدنا؛ بالبناء للمجهول، أي: أن الله تعالى وَعَدَنا بهذا رزقًا لنا فنحن رُزقناه في الدنيا بخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

   ورغب المؤمنون أن يكون لهم في الجنة أنيس يشاكلهم مما كانوا يأنسون به في الدنيا، فعلم الله ما في نفوسهم فقال: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ) من حيض ونفاس، وبول وغائط، ونوم وملل، وفتور ومرض مما ينغص الحياة، فلما أن بشرنا الله بهذا الذي هو كمال أنسنا تبادر إلى فكرنا مصيبة الموت فيها، فأزال الله عنا كرب هذا الخاطر، فقال سبحانه: (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، والله تعالى بشَّرَك أيها المؤمن لتشكره ولا تكفره، وتذكره فلا تنساه سبحانه، وتطيعه فلا تعصاه، وتعبده وتوحده، فلا تخالفه ولا تجحده.