حديث شريف

14/08/2021
شارك المقالة:

أهل القرب من الله سبحانه وتعالى هم أهل محبة الله ، وأهل المحبة يؤثرون مراد الله على مرادهم وحظهم وهواهم ، ويرغبون فى العمل الذى يوصلهم إلى محبة ربهم ، لأنهم يجدون فى محبتهم سعادة القرب ولذة الود وحلاوة الإقبال على الله ، والمحب اذا تخللت محبة الله قلبه يكون الله أحب إليه من نفسه وماله والناس أجمعين ، فيأخذ نفسه بالتصفية ، وقلبه بالتنقية ، ويتخلى عن الصفات المذمومة ، ويتحلى بالصفات المحمودة ، بحيث ينكشف عن عين قلبه حجاب الحس ، وينفتح من دون قلبه باب القدس ، فإذا هو يرى ما لا يرى لغيره ، ويسمع ما لا أذن سمعت ، ويذوق من الحقائق الدقائق والرقائق ما لا يخطر على قلب بشر ، وإنما يصبح الإنسان كذلك لأنه يحب الله تعالى ، فهو يحيا فى ظله ، وينهل من فضله ، والذات الإلهية عنده هى المنبع الأسمى لكل ما فى الوجود بين آيات الحق والجمال ، وهى المورد الأسنى لكل ما فى الكون من دلالات الخير والكمال ، وقد قال الجنيد فى وصف حال المحب : (عبد ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه ، قائم بحقوق ربه ، ناظر إليه بقلبه ، أحرق قلبه أنوار هويته ، وصفا شربه من كأس وده ، وانكشف له الجبار عن أستار غيبه ، فإن تكلم فبالله ، وإن نطق فعن الله ، وإن تحرك فبأمر الله ، وإن سكن فمع الله ، فهو بالله ولله ومع الله ) وقد تحدث أبو يعقوب السوسى عن الشرط الذى تصح به المحبة فقال : (لا تصح المحبة إلا بالخروج عن رؤية المحبة إلى رؤية المحبوب بفناء علم المحبة) وحول هذه المعانى يقول الإمام المجدد السيد محمد ماضى ابو العزائم :

أفردن بالقصد مولاك العلى

تشهدن غيبا مصونا أولى

فى المظاهر فاشهدن آيا ترى

غيبه قد لاح يجلى للولى

لا تقف عند العلوم وسرها

واطلب المعلوم منه به أخى

لا تقف  عند المحبة إنها

حجبة العشاق عن غيب بهى

واعبد المعروف جل جلاله

إن فتحت العلم والكشف السنى

إلى أن قال :

ما صلاتى ما صيامى ما أنا            

كل ذا حجب ومولانا علىٍ

 

والمحبة فى حقيقتها هى : محو المحب بصفاته وإثبات المحبوب بذاته ، وإيثار المحبوب على جميع المصحوب ، والميل الدائم بالقلب الهائم ، ومواطأة القلب لمرادات الرب . يقول سهل بن عبد الله التسترى : المحبة معانقة الطاعة ومباينة المخالفة . ويقول الجنيد : المحبة دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحبة . ويقول أبو عبد القرش : حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت ، فلا يبقى لك منك شيئ . ويقول ابن عطاء : المحبة أغصان تغرس فى القلب ، فتثمر على قدر القبول . ويقول أبو الحسين النورى : المحبة هتك الأستار ، وكشف الأسرار ، ويقول الحارث المحاسبى : المحبة ميلك إلى الشئ بكليتك ، ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك ، ثم موافقتك له سرا وجهرا ، ثم علمك بتقصيرك فى حبه . ويقول الإمام المجدد السيد محمد ماضى أبو العزائم فى كتابه (من جوامع الكلم) : (كم جذبت المحبة أشباحا من أسفل سافلين ، فلم تقف بها حتى شهدت رب العالمين ، والمحب حامل لأعباء المحبة ، والمحبوب محمول على رفارف العناية ، قال تعالى : (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ)[سورة الصافات:164] وأهل الوفا مجاهدون ، وأهل الصفا مشاهدون ، والمصطفون محبوبون ، والمحبة فوق كل مقام ، ومطلوبهم السلام لا دار السلام) ويقول كذلك : (ذرة من المحبة ترفع أهل الجهالة إلى أعلى مقامات القربى ، وأساس هذا الدين المحبة ، ولا تكون إلا بالصحبة ، ومن لم  يذق جرعة من محبة الله كان عبدا لحظه وهواه) ومن ذاق جرعة من صافى طهور محبة الله أغنته عمن سواه ومن سواه ، وكل أعمال البر عظيمة على النفس لا يحفظها إلا المحبة ، وما وهب الله العبد محبة إلا وقدر أنه يحبه ، ثم يقول رضوان الله عليه فى مواجيده :

الحب برهان قرب العبد للرب

والعبد يعطيه فضلا عالم الغيب

الحب منه تعالى سابق بدءا

أحبنا جل أحببناه فى الجذب

لولا محبته فى البدء قد سبقت

لما منحنا الهدى والحال قد يبنى

 

فالمحبة سمة المسافرين إلى ربهم ، الذين ركبوا جناح الشوق إليه ثم لم يفارقوه إلى حين اللقاء . وهى نوعان :

  • محبة تنبعث من مطالعة المنة التى تنشأ من مطالعة العبد منة الله عليه ، فبقدر مطالعته ذلك تكون قوة المحبة . فإن القلوب جبلت على  حب من أحسن إليها وبعض من أساء إليها ، وليس للعبد إحسان إلا من الله ولا إساءة إلا من الشيطان .

 ومن أعظم مطالعة منة الله على عبده تأهيله لمحبته ومعرفته ، وأصل هذا نور يقذفه الله فى قلب العبد ، فإذا دار ذلك النور فى قلب العبد أشرقت ذاته ، وعلت همته ، وقويت عزيمته ، وانقشعت عنه ظلمات نفسه ، لأن النور والظلمة لا يجتمعان ، يقول الامام ابو العزائم

أيشرق فى قلبى ضياء حبيبى

وفى كونى الأدنى أرى تحجيبى

حاشا وحبى من ألست مؤكد

أميل إلى الفردوس فى تقريبى

أتحجبنى الجنات عنه وإننى

مراد له أزلا بنور منيب

وذلك فضل الله يعطى لمن يشا

فسلم لنا تحظى بخير نصيب

علوم وأسرار وحال علية

ورأفة خير الرسل طاهر مشروبى

  • والنوع الثانى من المحبة : هو محبة تبعث على إيثار الحق على غيره ، وتلهج اللسان بذكره ، وتقلق القلب بشهوده ، وهى محبة تظهر من مطالعة الصفات والنظر إلى الآيات .

وهذه الدرجة أعلى مما قبلها باعتبار سببها وغايتها فإن سبب الأولى مطالعة الإحسان والمنة ، وسبب هذه مطالعة الصفات ، وشهود معانى آياته المسموعة والنظر إلى آيات المشهودة . ولذلك كانت غايتها أعلى من غاية ما قبلها إذ هى تبعث على إيثار الحق على غيره لكمالها وقوتها ، فإنها تقتضى من المحب أن يترك لأجل الحق ما سواه ، فيؤثره على غيره ، ولا يؤثر غيره عليه ، ويجعل اللسان لهجا بذكره ، فإن من أحب شيئا أكثر من ذكره لفرط استيلائه على القلب وتعلقه به ، حتى كأنه لا يشاهد غيره ، يقول إمامنا ومرشدنا السيد محمد ماضى أبو العزائم .

سلوت السوى حتى تحققت بالحق

وأيقنت أنى فى هواك على الصدق

وما برحت نار الهوى فى حشاشتى

تؤجج مما قد علانى من الشوق

إلى أن بدا لى فى الهوى كشف حالتى

لمن ليس من أهل البصيرة والذوق

وها قد فنى صبرى وقل تجلدى

ومولاى أهل للقبول وللرفق

فإن يرضه هتكى فبالموت أرتضى

وفى حبه قد صرت فان عن الخلق

قال الجنيد : كل محبة تكون بعوض ، فإذا زال العوض زالت المحبة . وقال ذو النون : قل لمن أظهر حب الله احذر أن تذل لغير الله . قالت رابعة العدوية يوما : من يدلنا على حبيبنا . فقالت خادمة لها : حبيبنا معنا ، ولكن الدنيا قطعتنا عنه. وقد أوحى الله إلى عيسى عليه السلام : (إنى إذا اطلعت على قلب عبد فلم أجد فيه حب الدنيا والآخرة ملأته من حبى وتوليته بحفظى) ، وقال إبراهيم بن أدهم : إلهى ؛ إنك تعلم أن الجنة لا تزيد عندى جناح بعوضة فى جنب ما أكرمتنى من محبتك وآنستنى بذكرك ، وفرغتنى للتفكر فى عظمتك .

 والمؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه ، وإذا أحبه أقبل عليه ، وإذا وجد حلاوة الإقبال عليه لم ينظر إلى الدنيا ولا الآخرة ، وكانت امرأة تبكى والدموع على خدها وتقول : جارية والله ، لقد سئمت من الدنيا حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته شوقا إلى الله وحبا للقائه . فقيل لها : فعلى ثقة أنت من عملك ؟ قالت : لا ، ولكن لحبى إياه وحسن ظنى به أفَتراه يعذبنى وأنا أحبه؟! .

فالمحبة قرب القلب من المحبوب . وقد أوحى الله لداود عليه السلام : (لو يعلم المدبرون عنى كيف انتظارى لهم ورفقى بهم ، وشوقى إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقا إلىّ ، وتقطعت قلوبهم من محبتى ، يا داود ؛ هذه إرادتى فى المدبرين عنى ؛ فكيف إرادتى فى المقبلين على) .

وأوحى الله لداود عليه السلام : (يا داود ؛ ذكرى للذاكرين ، وجنتى للمطيعين ، وزيارتى للمشتاقين ، وأنا خاصة للمحبين ) . وأوحى الله إلى آدم عليه السلام : (يا آدم من أحب حبيبا صدق قوله ، ومن أنس بحبيبه رضى فعله ، ومن اشتاق إليه جد فى مسيره ) قيل لبعض العارفين : (إنك محب . فقال : لست محبا ، إنما أنا محبوب ، والمحب متعوب . قيل له : الناس يقولون إنك واحد من السبعة . فقال : أنا كل السبعة الذين يظلهم الله فى ظله) . وكان يقول : اذا رأيتمونى فقد رأيتم أربعين بدلا . قيل : وكيف وأنت شخص واحد ؟ فقال : لأنى رأيت أربعين بدلا ، وأخذت من كل واحد خلقا من أخلاقه . قيل له : بلغنا أنك ترى الخضر عليه السلام . فقال مبتسما : ليس العجب ممن يرى الخضر ، ولكن العجب ممن يريد الخضر أن يراه فيحتجب عنه . وكان أبو يزيد يقول : إن أعطاك خلة إبراهيم ، ومناجات موسى ، وروحانية عيسى ؛ فاطلب ما وراء ذلك ، فإن عنده فوق ذلك أضعافا مضاعفة ، فإن سكنت إلى ذلك حجبك به . وأوحى الله إلى بعض أنبيائه : إنما أتخذ لخلتى من لا يفتر عن ذكرى ، ولا يكون له هم غيرى ، ولا يؤثر علىّ شيئا من خلقى ، وإن حرق بالنار لم يجد لحرق النار وجعا ، وإن قطع بالمناشير لم يجد لمس الحديد ألما .

روى أن موسى عليه السلام لما كلمه ربه مكث دهرا لا يسمع كلام أحد من الناس إلا غشى عليه . لأن الحب يوجب عذوبة كلام المحبوب وعذوبة ذكره ، فيخرج من القلب عذوبة ما سواه . قال بعض الحكماء : عجبا للخلائق كيف أرادوا بك بدلا ، عجبا للقلوب كيف استأنست بسواك عنك . قال الله لداود : (كن لى مشتاقا ، وبى مستأنسا ، ومن سواى مستوحشا) . فلو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك ، إذ هى رأس العبادة ، تجد فيها الراحة من مداراة الناس ، والسلامة من شرهم ، والعبد يذوق حلاوة الحب والأنس بالله إذا صفا الود ، وخلصت المعاملة ، واجتمع الهم ، فصار همّا واحدا فى الطاعة . وقد قال الإمام على كرم الله وجهه فى وصف المحبين : هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعر المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى ، أولئك خلفاء الله فى أرضه ، والدعاة إلى دينه .

قال الله لداود : كذب من ادعى محبتى إذا جنه الليل قام عنى ، أليس كل محب يحب لقاء حبيبه ، فها أنا ذا موجود لمن طلبنى . قال موسى لربه : أين أنت فأقصدك ؟ فقال : إذا قصدت فقد وصلت .

قال يحيى بن معاذ : مثقال خردلة من الحب أحب إلىّ من عبادة سبعين سنة بلا حب . وفى الزبور : (ومن أظلم ممن عبدنى لجنة أو نار ، لو لم أخلق جنة ولا نارا ألم أكن أهلا أن أطاع) ، وقال أبو حازم : إنى لأستحيى أن أعبده للثواب والعقاب فأكون كالعبد السوء ؛ إن لم يخف لم يعمل ، وكالأجير السوء ؛ إن لم يعط لم يعمل.           

 

 

من تراث

مجلة الإسلام وطن

لفضيلة الشيخ / سيد الصيفى