التاريخ الإسلامي : سلسلة "فضائل أهل البيت والصحابة " (6)

20/08/2021
شارك المقالة:

الصوفى الأزهر

الصوفية هم الذين صفت قلوبهم من شوائب الكون , وتطهرت نفوسهم من رجس الشهوات , وتعلقت هممهم بالله تعالى ففنوا عن كل ما سواه , ووجهوا وجوههم شطره , لم تحجبهم الكائنات عن شهود مبدعها , ولم تشغلهم الآيات الجليلة عن فهم إشارتها وذوق معانيها , هم عبيد الله السائرون على منهج نبيه  - صلى الله عليه وآله وسلم - , وهم الذين تلقوا أسرار التوحيد وأنوار الحكمة بقلوب واعية ونفوس صافية عن العلماء العارفين بالله , ورثة رسول الله  - صلى الله عليه وآله وسلم - .

وسيدنا أبو بكر الصديق هو الصوفى الأزهر فى أخلاقه وأقواله وأفعاله وأحواله .

فقد قيل فى تعريف التصوف ما أورده أبو نعيم فى حلية الأولياء :

1-التصوف هو : الاعتصام بالحقائق عند اختلاف الطرائق

ويتحقق هذا المعنى فى الصديق  - رضى الله عنه - بعد انتقال النبى  - صلى الله عليه وآله وسلم - , فعن ابن عباس رضى الله عنهما : أن أبا بكر خرج حين توفى النبى  - صلى الله عليه وآله وسلم - وعمر يكلم الناس فقال : اجلس ياعمر فأبى عمر أن يجلس , فقال : اجلس ياعمر . فتشهد فقال : أما بعد ؛ فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات , ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حى لا يموت , وإن الله تعالى قال : (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)( آل عمران : 144) . قال والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله عز وجل أنزل هذه الآية حين تلاها أبو بكر , فتلقاها منه الناس كلهم , فما نسمع بشراُ إلا يتلوها .

واعلم أن الصحابة  - رضى الله عنهم -  إذا اختلفوا فى أمر فكلاهما يكون على صواب فسيدنا عمر  - رضى الله عنه - وسيدنا أبو بكر  - رضى الله عنه - كلاهما كان على صواب فيما قال , فسيدنا عمر نظر إلى النبى  - صلى الله عليه وآله وسلم - من جهة الرسالة التى لا تموت فقال : من قال إن رسول الله مات قطعت عنقه , وهذا حق يؤيد قول الله (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)(الحجرات : 7) . وسيدنا أبو بكر نظر إلى النبى  - صلى الله عليه وآله وسلم - من جهة الجسد الذى انتقل إلى الرفيق الأعلى فقال ما قال .

2- التصوف هو : تفرد العبد بالصمد الفرد .

ويتحقق هذا المعنى فى الصديق  - رضى الله عنه - بعد أن رده ابن الدغنة وهو مهاجر إلى الحبشة وصار الصديق فى جواره , فتقول السيدة عائشة : لما أنفذت قريش جوار ابن الدغنة قالوا له : مر أبا بكر فليعبد ربه فى داره وليصل فيها ما شاء وليقرأ ما شاء . ولا يؤذينا ولا يستعلن بالصلاة والقراءة فى غير داره . ففعل أبو بكر  - رضى الله عنه - ثم بدا له فابتنى مسجدا بفناء داره . فكان يصلى فيه ويقرأ , فتتقصف "تزدحم " عليه نساء المشركين وأبناؤهم يتعجبون منه , وينظرون إليه , وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش , فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم , فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال : ياأبا بكر قد علمت الذى عقدت لك عليه , فإما أن تقصر على ذلك , وإما أن ترجع إلى ذمتى , فإنى لا أحب أن تسمع العرب أنى أخفرت فى عقد رجل عقدت له .

فقال أبو بكر : فإنى أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله ورسوله , ورسول الله  - صلى الله عليه وآله وسلم - يومئذ بمكة .

3- التصوف هو تطليق الدنيا بتاتا , والإعراض عن منالها ثباتا.

ويتحقق ذلك فى الصديق  - رضى الله عنه - فى عزوفه عن العاجلة وأزوفه من الآجلة , فعن زيد ابن أرقم قال : استسقى أبو بكر فأتى بإناء فيه ماء وعسل , فلما أدناه من فيه بكى وأبكى من حوله , فسكت وما سكتوا , ثم عاد وبكى حتى ظنوا أن لا يقدروا على مساءلته , ثم مسح وجهه وأفاق . قالوا : ما هاجك على هذا البكاء ؟ قال : كنت مع النبى  - صلى الله عليه وآله وسلم - ,وجعل يدفع عنه شيئا ويقول : ( إليك عنى , إليك عنى ) ولم أر معه أحدا , فقلت يارسول الله : أراك تدفع عنك شيئا ولا أرى معك أحدا ؟ قال : (هذه الدنيا تمثلت لى بما فيها، فقلت لها : إليك عنى . فتنحت وقالت : أما والله لئن انفلت منى لا ينفلت منى من بعدك ) فخشيت أن تكون قد لحقتنى فذاك الذى أبكانى .

4- التصوف هو : الجد فى السلوك إلى ملك الملوك .

ويحقق ذلك أيضا فى الصديق  - رضى الله عنه - فى شدة ورعة وبعده عن الشبهات وهو أول من قاء من الشبهات , فعن زيد بن الأرقم قال : كان لأبى بكر الصديق  - رضى الله عنه - مملوك يغل عليه فأتاه ليلة بطعام فتناول منه لقمة , فقال له المملوك : مالك كنت تسألنى كل ليلة ولم تسألنى الليلة ؟ قال : حملنى على ذلك الجوع من أين جئت بهذا ؟ قال : مررت بقوم فى الجاهلية فرقيت لهم فوعدونى . فلما أن كان اليوم مررت بهم فإذا عرس لهم فأعطونى , قال : إن كدت أن تهلكنى , فأدخل يده فى حلقة فجعل يتقيأ , وجعلت لا تخرج , فقيل له : إن هذه لا تخرج إلا بالماء فدعا بطست من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها . فقيل له : يرحمك الله كل هذا من أجل اللقمة ؟ قال : لو لم تخرج إلا مع نفسى لأخرجتها سمعت رسول الله  - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ) . فخشيت أن ينبت شىء من جسدى من هذه اللقمة .

5- التصوف هو : السكون إلى اللهيب , فى الحنين إلى الحبيب .

ويتحقق ذلك فى الصديق  - رضى الله عنه - فى أنه كان يقدم على المضار , لما يؤمل فيه من المسار,فعن أسماء بنت أبى بكر قالت: أتى الصريخ آل أبى بكر , فقيل له : أدرك صاحبك . فخرج من عندنا – وإن له غدائر – فدخل المسجد وهو يقول : ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله , وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟ فلهوا عن رسول الله وأقبلوا على أبى بكر , فرجع إلينا أبو بكر لا يمس شيئاً من غدائره إلا جاء معه وهو يقول : تباركت ياذا الجلال والإكرام .

6- التصوف هو : وقف الهمم على مولى النعم .

ويتحقق ذلك فى الصديق  - رضى الله عنه - فى أنه كان يقدم الحقير مفتاداً للخطير , فعن سيدنا عمر بن الخطاب  - رضى الله عنه - قال : ( أمرنا رسول الله  - صلى الله عليه وآله وسلم - أن نتصدق ووافق ذلك مال عندى , فقلت اليوم أسبق أبا بكر , إن سبقته يوماً , قال : فجئت بنصف مالى , فقال لى رسول الله  - صلى الله عليه وآله وسلم - " ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : مثله , وأتى أبو بكر بكل ما عنده . فقال رسول الله  - صلى الله عليه وآله وسلم - : ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله . قلت : لا أسابقك إلى شىء أبداً) .

7- التصوف هو : استنفاد الطوق , فى معاناة الشوق , وتزجية الأمور , على تصفية الصدور.

ويتحقق ذلك فى الصديق  - رضى الله عنه - لأنه فى المصافات صافياً , وفى المؤخاة وافيا , فعن أنس بن مالك قال : لما كان ليلة الغار , قال أبو بكر : يارسول الله دعنى فلأدخل قبلك فإن كانت حية أو شىء كان لى قبلك , قال : ادخل , فدخل أبو بكر فجعل يتلمس بيديه فكلما رأى جحراً جاء بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع , قال : فبقى حجر فوضع عقبه عليه , ثم أدخل رسول الله  - صلى الله عليه وآله وسلم - . قال : فلما أصبح قال له النبى : ( فأين ثوبك ياأبا بكر ؟ ) فأخبره بالذى صنع , فرفع النبى  - صلى الله عليه وآله وسلم - يديه وقال : ( اللهم اجعل أبا بكر معى فى درجتى يوم القيامة ) فأوحى الله إليه : [ إن الله قد استجاب لك ] .

وعن أسماء بنت أبى بكر قالت : كان يد النبى  - صلى الله عليه وآله وسلم - فى مال أبى بكر ويد أبى بكر واحدة حين حجا .