قصة سيدنا عيسى عليه السلام (الحلقة الثامنة )

01/09/2021
شارك المقالة:

 

ذكر خصائص سيدنا عيسى عليه السلام والمعجزات التى ظهرت علي يديه بعد مبعثه الى أن رُفع صلوات الله وسلامه عليه – الجزء الخامس

 

ومنها: رفعه إلي السماء إذ قال الله : ( ياعيسى إنى متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ) الآية . وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم – الي قوله تعالى : ( بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ).

وقد أخفى الله تعالى عن اليهود سر القدر وأظهر أمره ونهيه وأحكام دينه ، مؤيدا المسيح بالمعجزة الباهرة فأبوا أن يقبلوا ، ولجهلهم بسر القدر ناوءوا المسيح عليه السلام  ومكروا به وهموا بقتله ، فاجتمع أحبار اليهود ليلا ووضعوا طريق المكايد التى يكيدون له بها فرحين بما وضعوه ، فمكر الله بهم من حيث لم يحتسبوا ورفع المسيح إلى السماء ، وانتقم منهم ملك الروم الذى تسلط عليهم فمزق جمعهم فى الأرض حتى فر بنوا النضير وبنو قينقاع إلى الحجاز.

روى الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس أن عيسى عليه السلام استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا : قد جاء الساحر ابن الساحرة الفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه ، فلما رأى ذلك عيسى دعا عليهم فقال : اللهم أنت ربى وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقت ولم آتهم من تلقاء نفسى ، اللهم العن من سبنى وسب أمى ، فاستجاب الله دعاءه ومسخ الذين سبوه وأمه خنازير فلما رأى ذلك رأس اليهود وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته، فاجتمعت كلمة اليهود علي قتل عيسى ، فاجتمعوا عليه ذات يوم وجعلوا يسألونه ، فقال : يامعشر اليهود إن الله يبغضكم ، فغضبوا من مقالته غضبا شديدا وثاروا عليه ليقتلوه ، فبعث الله إليه جبريل عليه السلام فأدخله خوخة وواراه فى سقفها ورفعه الله تعالى من رزنته ، فأمر رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له فلطيانوس أن يدخل الخوخة فيقتله، فلما دخل فلطيانوس لم ير عيسى ، فأبطأ عليهم فظنوا أنه يقاتله فيها ، فألقى الله عليه شبه عيسى ، فلما خرج ظنوا أنه عيسى فقتلوه وصلبوه .

ذكرالامام أبو العزائم فى كتابه وسائل إظهار الحق : " بينما كان الأحبار يدبرون المكائد ، كان ذكره عليه السلام  قد انتشر ، حتى وصل إلى الحكام الرومانيين المحتلين لسوريا . ومن البديهى أن الأمة إذا احتلت بلاد أمة أخرى يتألفون من له الشهرة الدينيه ممن يحبه العامة ، ويعتقدون فيه تأليفا للأمة ، فاستحسن حكام الرمانيين أن يجعلوه رب إسرائيل أي  رئيسهم وملكهم ، تأليفا لعامة الشعب ، لما رأوه من زحام الناس عليه وحبهم له . فكان هذا النبأ كصاعقة نزلت على أحبار اليهود ، فقاموا يدبرون المكائد لقتل سيدنا عيسى عليه السلام  ليستريحوا منه ومما يتوقعونه منه من الهلاك . ومن قرأ التاريخ وعلم الأمر على ما هو عليه يظهر له سعى يهوذا الأسخريوطى لجعل المسيح عليه السلام  رب إسرائيل من قبل الرومانيين ، والتماسه  من المسيح عليه السلام  هذا الأمر بكل ما فى وسعه ، ليكون ليهوذا هذا السلطان الحقيقى . لأن المسيح عليه السلام  لم يكن ملتفتا للدنيا ولا لعمارتها ، لأن وصاياه كلها وتعاليمه كلها تفيد الحث على ترك الدنيا  عدم العمل فيه لها . فكان عدم قبوله أن يكون رب إسرائيل كنقمة حلت بحواريه الصادق يهوذا، وكان هو السبب المعين لبنى إسرائيل على الحادثة التى سأبينها تفصيلا . والمسيح يأكل مع يهوذا ويشرب معه ولا يعلم ما يدبره له من المكائد ، ذلك لأنه إنسان لا يعلم الغيب إلا إذا علمه الله من الغيب ما شاء أن يعلمه.

قلت : إن المسيح عليه السلام  كانت تعاليمه ووصاياه ترك الدنيا والإقبال بالكلية على الآخرة التى يسميها الملكوت ، ذلك لأنه عليه السلام  لم يكن رسولا مستقلا بشرع جديد ناسخ لما قبله من الشرائع ، ولكنه أرسله الله رسولا إلى بنى إسرائيل ليغير البدع بالسنن والضلال بالحق ، وهذا صريح قوله عليه السلام  : ( ما جئت لآهدم الناموس ) . ولما كانت أعمال التوارة أكثرها قاصرة على العبادات البدنية ، كانت وصاياه وتعاليمة متعلقة بالأعمال القلبية أكثر تكميلا للناموس ليكون بحسب زمانه كاملا . ولذلك فإن الذى تلقى وصايا وتعاليم المسيح عليه السلام  يجب أن يكون تلقى جميع أحكام التوارة المعلقة بالعبادة والمعاملة فى سفر التالوت ، ليجمع بين الكمال الحقيقى الذى هو العمل فى الدنيا والآخرة . ولجهل الأحبار بما جاء به سيدنا عيسى عليه السلام  واعتقادهم أنه جاء رسولا ناسخا ، وإنكارهم على نسبة جعل العداوة فى قلوبهم تبلغ مبلغا أدى إلى الكفر الصريح وإنكار كل تلك الآيات ، حتى اشتد العناد إلى أن أجمعوا على قتله خوفا على ضياع دينهم به وذهاب دنياهم وخراب ملكهم ، وأن إدراك حصول حادثة من تلك الحوادث يكفى فى أن الرجل يبذل ما فى وسعه لراحته من عدوه "  .

 

 وقال وهب : أن عيسى لما أعلمه الله تعالى أنه خارج من الدنيا جزع من الموت وشق عليه ، فدعا الحواريين وصنع لهم طعاما ، وقال احضرونى الليلة فلى إليكم حاجة ، فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام بخدمتهم ، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوصيهم ويمسح أيديهم بثيابه فتعاظموا ذلك وتكارهوه ، فقال ألا من رد علي شيء مما أصنع فليس منى ولا أنا منه ، فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قال لهم : أنا ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم علي الطعام وغسلت أيديكم بيدى إلا ليكون لكم بى أسوة ، وإنكم ترون أنى خيركم فلا يتعاظم بعضكم علي بعض وليبذلن بعضكم نفسه لبعض كما بذلت نفسى لكم ، أما الحاجة التى استعنتكم عليها فتدعون الله لى وتجتهدون فى الدعاء أن يؤخر أجلى ، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا أرسل الله عليهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء ، فجعل يوقظهم ويقول : سبحان الله ما تصبرون فى ليلة واحدة وتعينونى فيها ، فقالوا والله ما ندرى ما لنا لقد كنا نسهر فنكثر السهر وما نطيق الليلة سهرا وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه ، فقال: يذهب الراعى وتبقى الغنم ، وجعل يأتى بكلام مثل هذا يعنى نفسه، ثم قال: ليكفرن بى أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات وليبيعنى أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمنى ، فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه ، فأخذوا شمعون أحد الحواريين فقالوا هذا من أصحابه فجحد وقال ما أنا من أصحابه فتركوه ، ثم أخذ آخر فجحده كذلك ، ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه ذلك ، فلما أصبح أتى أحد الحواريين أولئك اليهود فقال لهم ما تجعلون لى إن دللتكم عليه ؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه ، وكان شبه لهم قبل ذلك فأخذوه بالحبل وجعلوا يقودونه ويقولون أنت كنت تحيي الموتى وتبرئ الأكمه والأبرص أفلا تفك نفسك من هذا الحبل ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك ، ثم إنهم نصبوا له خشبة ليصلبوه عليها فلما أتوا به إلي الخشبة ليصلبوه أظلمت الأرض ، وأرسل الله الملائكة فحالوا بينهم وبين عيسى وألقى شبه عيسى علي الذي دلهم عليه واسمه يهوذا فصلبوه مكانه وهم يظنون أنه عيسى وتوفى الله عيسى ثلاث ساعات ثم رفعه إلي السماء فذلك قوله تعالى ( إنى متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ) فلما صلب الذي هو شبه عيسى جاءت مريم أم عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها وأبرأها من الجنون يبكيان عند المصلوب فأتاهما عيسى وقال علي من تبكيان ؟ فقالتا عليك ، فقال: إن الله تعالى رفعنى فلم يصبنى إلا خير وإن هذا شخص شبه لهم .

قال الإمام أبو العزائم : إن يهوذا لما أخذ الأعوان الظلمة ودلهم على المسيح وقبضوا عليه ليلا كان القبض عليه نازلة على تلاميذه ، حارت منها عقولهم ، وطاشت منها أحلامهم فتفرقوا أيدى سبأ ، فمنهم من كان له أصدقاء من الرومانيين أهل السلطان فى بلاد مصر ففر إليها . ومنهم من كان له أصداقاء فى القسطنطينية فتوجه إليها ناجيا بنفسه . ولم يبق مع المسيح إلا يهوذا الأسخريوطى الذى أراد أن يجعل له يدا عند اليهود يرتفع بها شأنه ، فأراد القوى القدير الحكيم المدبر أن يهلكه كما أهلك من قبله ممن هموا بقتل رسلهم ، فأنجى المسيح ورفعه ، ومكن الأعوان من يهوذا فصلبوه .

وقال مقاتل: إن اليهود وكلوا بعيسي رجلا يكون عليه رقيبا يدور معه حيثما دار فصعد عيسى الجبل ، فجاءه الملك فرفعه إلي السماء وألقى الله تعالى شبه عيسى علي الرقيب فظن اليهود أنه عيسى فأخذوه وكان يقول لهم إنى لست عيسى إنى فلان بن فلان فلم يصدقوه وقتلوه وصلبوه ، قال قتادة : ذكر لنا أن نبى الله عيسى قال لأصحابه أيكم يقذف عليه شبهى فإنه مقتول فقال رجل من القوم : أنا يانبى الله فقتل ذلك الرجل ومنع الله عيسى ورفعه إليه .

قال الإمام أبو العزائم : لقد أخبرنى من أثق به خبرا ربما كان مقربا للحادثة أن الأعوان الذين أرسلهم اليهود للقبض على المسيح مع يهوذا الأسخريوطى ليلا توجهوا إليه وأزعجوه وشددوا عليه ، وحضر معه يهوذا إلى محل الصلب وكان معه آخر أحضر ليصلب لأنه محكوم عليه، فلما أن أحضروا المسيح إلى محل الصلب غلبهم النعاس جميعا فناموا ، فرفع الله المسيح وألقى شبهه على يهوذا الذى كان أشبه الناس به ، ولما كان الأعوان مكلفين بصلب إنسان قياما بما أوجبه عليهم كبار اليهود وربما كانوا من شيعة المسيح وأحبابه ، ولكنهم مأمورون قهرا بهذا العمل ، فقبضوا على يهوذا وصلبوه . وهنا أخبرنى قائلا : يجوز أن الأعوان لما أن قهرهم النعاس ولم يجدوا المسيح وصلبوه يهوذا وأدخلوه القبر خافوا أن بفتش الأحبار على عملهم فيروا الذى صلب غير المسيح فينتقموا من الأعوان ، فأخرجوا يهوذا من القبر وأخفوه فى مكان آخر . ويجوز أن يكون الأحبار أمروا بهذا العمل بدون أخذ أمر من الحاكم الرومانى فخافوا من تهيج الشعب عليهم بحصول تلك الحادثة فينتقم الرومان منهم ، فأخرجوا جثة يهوذا من القبر وأخفوه فى مكان آخر ، كل ذلك جائز يقبله العقل بلا ريب فيه ولا شك، ولا يقبل العقل تقرير حقائق لم تقرر له بطريق من طرق العلم اليقينى خصوصا إذا كانت تخالف سنة الله التى كانت من قبل .

قال ابن إسحق : ثم عمد اليهود إلي بقية الحواريين أصحاب عيسى يشمسونهم ويعذبونهم ويطوفون بهم ، فسمع ذلك ملك الروم ، وكان صاحب وثن فقيل له أن رجلا كان فى هؤلاء الناس الذين تحت يدك من بنى إسرائيل عدوا عليه فقتلوه ، وكان يخبرهم أنه رسول الله وقد أحيا لهم الموتى وأبرأ لهم الأسقام ، وخلق لهم من الطين كهيئة الطير ونفخ فيه فكان طائرا بإذن الله ، وأخبرهم بالغيب وأراهم العجائب، فقال ملك الروم : فما منعكم أن تذكروا لى أمره فوالله لو علمت لخليت بينه وبينهم ، ثم إنه بعث إلي الحواريين فانتزعهم من أيديهم ، فلما أتوه سألهم عن دين عيسى فأخبروه خبره ، فبايعهم علي دينه ، واستنزل شبه عيسى والخشبة التى صلب عليها فأكرمها وصانها لما مسها منه ، وغزا بنى اسرائيل فقتل منهم خلقا كثيرا فمن هناك كانت أصل النصرانية فى الروم.

وقال أهل التوراة: حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة ، وولدت عيسى ببيت لحم من أرض أورشليم لمضى خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر علي بابل ولإحدى وخمسين سنة مضت من ملك الاسكانيين ، وأوحى الله إليه علي رأس ثلاثين سنة ورفعه من بيت المقدس اليه ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فكانت نبوته ثلاث سنين وعاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين والله أعلم .

 

ذكر وفاة مريم ابنة عمران عليهما السلام

قال وهب : لما أراد الله تعالى أن يرفع عيسى عليه السلام آخى بين الحواريين فأمر رجلين منهم يقال لأحدهما شمعون الصفار والآخر يحيي أن يلتزما أمه ولا يفارقاها ، فانطلقا ومعهما مريم إلي ماروت ملك الروم يدعونه إلي الله تعالى وقد بعث الله تعالى إليه قبل ذلك يونس عليه السلام فلما أتوه أمر شمعون وأندراوس فقتلا وصلبا منكسين وهربت مريم ويحيي حتى إذا كانا فى بعض الطريق لحقهما الطلب فخافا فانشقت لهما الأرض فغابا فيها وأقبل ماروت ملك الروم وأصحابه فحفروا ذلك الموضع فلم يجدوا شيئا فردوا التراب علي حاله وعلموا أنه أمر من الله تعالى ، فسأل ملك الروم عن حال عيسى فأخبروه به فأسلم والله أعلم .

       و للحديث بقية بإذن الله تعالى