شارك المقالة:

 

في مقدمة كتابه: "الجهاد" يقول الإمام المجدِّد السيد محمد ماضي أبو العزائم رضي الله عنه: "ولما تحققتُ بما ألمَّ بالمجتمع من الشدائد الفادحة: كالكساد في محصولات الزراعة والتجارة، والفتن التي كقطع الليل المظلم، والخصومات التي بين الأقارب والجيران، والغفلة التي استولت على القلوب فأنستها علام الغيوب وأليم عقوبته سبحانه وتعالى وموقف يوم الحساب، ورأيت النفوس - مع تلك البلايا - تجهل أسبابها، حتى بلغت الغفلة مبلغاً جعلت الناس يسارعون إلى إزالة البلايا بما يزيدها من المعاصي، فأحببتُ أن أوقظ قلوب إخوتي جميعاً إلى معنى قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)([1]) ، وإلى معنى قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث القدسي: (إذَا عَصَانِى مَنْ عَرَفَنِي سَلَّطتُ عَلَيْهِ مَن لَمْ يَعْرِفْنِي) ....".

ثم بيَّن رضي الله عنه أن أسباب المصائب التي تعاني منها الأمة هي معصية الله ومخالفة سنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ودعا المسلمين إلى التنبه وإلى الإقبال على الله تعالى قبل أن يشتد غضبه، وأن يعتبروا بما أصاب الأمم السابقة، فقد كفى ما نزل بالأمة الإسلامية من البلايا، ولا شك أن على كل مسلم أن يجاهد لتزول تلك البلايا، وأن يقوم بواجبه لتتحصن الأمة من شر أعدائها، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: (كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ المسْلِمِينَ عَلَى ثَغْرٍ مِن ثُغُورِ الإسْلَامِ، فَإذَا تَهَاوَنَ إخْوَانُكَ فَاشْدُدْ لِئَلَّا يُؤْتَى الإسْلَامُ مِن قِبَلِكَ).

وبعد أن بيَّن الإمامُ أنواعَ الأعداءِ وثبوتَ فرضيةِ الجهاد بالكتاب والسنة، وأساسَ الجهاد، وأنواعَه، وأهدافَه، وحكمتَه...، بيَّن شروط الجهاد التي نذكرها فيما يلي:

 أولا: أن نقاتل في سبيل الله

يأمر الله المؤمنين - من لدن سيدنا ومولانا محمد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى يوم القيامة - بأن يقاتلوا من أوجب علينا قتالهم، بعد أن بيَّن الله لنا ما بيَّن من أنه سبحانه بيده ملكوت السموات والأرض يحيى من يشاء ويميت من يشاء بقتال وبغير قتال، وأنه يحيى من أمات بدليل قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) ([2] ) فمن قدَّر له النسيئة في عمره وخاض ميدان القتال خرج سالماً ظافراً، ومن قدَّر عليه الموت وحصَّن نفسَه بكل الحصون مات رغم أنفه.

وأمْرُ اللهِ لنا بالقتال لحِكم عَلِمَها مَن عَلِمَها، وجَهِلَها مَن جَهِلَها, منها أن يكون قتلنا في سبيل الله حياة باقية عند ربنا يرزقنا الله بها في كل نفَس رزقاً جديداً, وذلك الرزق هو ما يتفضل الله به علينا من جزاء أعمال من جاهدناهم فأسلموا وعملوا بالكتاب والسنة, أو من جاهدناهم فسلِم الناسُ من ظلمهم ومن التظالم لهم، ويرزقنا الله تعالى - عوضا عما بذلنا في سبيله - خيرا مما كان لنا, فيمنحنا نفخة القدس التي نشهد بها عَلِيَّ جمالِه في الأفق الأعلى, وروحاً عالية ملكوتية نشهد بها جلِيَّ آياته في الأفق المبين, بل وتكون أرواحنا في عليين، فإذا كان يوم البعث جعل الله لنا أجنحة نطير بها إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر، وهذه العطايا يتفضل الله بها على من استشهد بين الصفين, حاضر القلب مسارعاً إلى لقاء ربه, فرحا بمفارقة كون الفساد.

يقول الله تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ([3] ) أي: وقاتلوا في دين الله ليكون الدين كله لله، فيتحقق المجاهد بنيل تلك المنزلة العالية, بأن يكون مجاهداً بقلبه وجسمه وماله وآله, لا يخطر على قلبه رغبة في غنيمة, أو سيادة أو فخر أو رياء أو نعرة حزبية, بل تكون كل قواه التي كُوِّن منها مستغرقة فيما وجَّه وجهَه إليه من نيل رضوان الله الأكبر, وإعلاء كلمته وتجديد سنة نبيه سيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -.

ولا شك أننا في أمس الحاجة إلى استحضار تلك المعاني والعمل بمقتضاها – خاصة في زماننا هذا -، بعد أن لوَّثَ بعضُ الناسِ معاني الجهاد، فجعلوه في سبيل كرسي الحكم أو عرَضٍ دنيويٍّ زائل، بدلا من أن يكون في سبيل الله تعالى.

 ثانيا: أن نأخذ من هزائم الأمم السابقة عبرة وعظة

إن من خالفوا سنة أنبيائه وعصوا أوامر الله يسلط عليهم أعداءه وأعداءهم حتى يستعبدوهم, كما فعل المسلمون في هذا العصر من مخالفة سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وترك العمل بكتاب الله, فسلط عليهم في كل بقاع الأرض أعداءه الإفرنج وأعداءه المجوس وغيرهم, وصار المسلمون - لخروجهم عن الكتاب والسنة – شيعا كما حصل لبني إسرائيل في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ([4] ).

فهذه الآية أنزلها الله تعالى تهديداً لمعاصري رسول الله  - صلى الله عليه وآله وسلم -  من يهود بني إسرائيل من أهل خيبر والنضير وقينقاع, وبشرى لأهل الإيمان ليحثهم الله بها على الوفاء بما عاهدوا الله عليه من بيع النفس والمال له سبحانه كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) ([5] ) ومن باع السلعة كيف يرجع فيها؟!.

وما من آية نزلت في بني إسرائيل تدل على أن الله غضب على أمة من الأمم بسبب عمل من الأعمال أو رضي عنها بسبب ما قاموا به من السمع والطاعة لله ولرسوله إلا وجرَّت بذيلها الأمة الإسلامية، فقد كنا في زمن سلفنا الصالح نملك من غلمان أوربا وفتيانها كثيراً, نشتريهم من أسواقنا, وكان لنا الحول والطول أيام كنا نعمل بأحكام ديننا, فلما أن خالفنا سنة نبينا؛ ونسينا أوامر ربنا وأخذنا بالحظ والهوى والرأي؛ سلط الله علينا من كانوا لنا عبيداً يباعون في أسواقنا, فأصبحنا أذل من العبيد, ولأننا بمخالفة الله ورسوله أصبحنا أعوانا لهم على أنفسنا, فلا ترى مسلماً يتذوق طعم الرحمة لأبيه أو لأخيه أو لأمه, حتى أصبح أعداؤنا يسلبون مرافق حياتنا, ويضربوننا ببعضنا, وكلما أردنا أن نتحد على العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -, قام العدو بخيله ورَجِلِه فمَنَّى منا قوماً ووعدهم المساعدة والنصرة والتأييد، فقاموا يضربون وجوه بعضهم بعضا, حتى إذا أضعفوا أنفسهم, وضع نعاله فوق رؤوس عظمائهم وكبرائهم، فأصبحوا حثالة لا يستجيب الله دعاءهم إذا دعوا, ولا ينظر إليهم إذا جاءوا, ولا يرحمهم إذا ذلوا, قال أبو هريرة رضي الله عنه: (إِنَّمَا يَسْعَدُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَا سَعِدَ بِهِ أَوَّلُهَا).

وقد أصبح الدعاة للحق بالحق قليلين جدا, وأصبح المنتحلون الدعوة إلى الله أضر على المسلمين من الشيطان الرجيم, لا يخافون الله ولا يرجون اليوم الآخر, ملأ الحسدُ قلوبَ العلماء, وأفسد الظلمُ قلوبَ الولاة والأمراء, أذلت الخيانةُ أنفسَ التجار, وأفسد الكيدُ النساءَ، حتى أصبح العلماء في مصائد إبليس بالحسد, والحكام في مصائده بالظلم, والتجار في مصائده بالخيانة, والنساء في مصائده بالكيد, قال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُور)([6]).

وتلك سنة الله في خلقه من لدن آدم عليه السلام، فإن الذي أفسد آدم وهو في الجنة كيف يعجز أن يفسد من أحاطت به الفتن والمصائب؟!.

وفي هذه الآية تهديد من الله تعالى لجميع خلقه الذين يظنون أنهم في ستر لا يراهم أحد, ويقعون فيما يغضب الله, ويجهلون أن الله عليم بهم أو ينسون ذلك.

ومتى راقب العبد ذلك العليم الخبير القريب الذي هو أقرب للعبد من حبل وريده؛ دلت تلك المراقبة على خوفه من الله وعظيم قربه منه ولو ربط الحجر على بطنه جوعاً، ولو فقد تلك المراقبة مع ما فيه من القوى المتضادة الدافعة إلى العلو والكبرياء في الأرض وطلب الغنى والمنافسة؛ لا يجد حصنا حصينا يدفع عن نفسه شرورها إلا بما يمن الله به على العبد من تلك المراقبة.

منَّ الله علينا بحسن مراقبته في أحكامه وبكمال مراقبته في جلاله, حتى نكون له كما يحب, كما أنه سبحانه لنا كما نحب.

 ثالثا: أن نحافظ على الصلوات حتى في وقت الفزع الأكبر

بعد أن أمرنا الله بالمحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى بيَّن لنا كيف نحافظ على الصلوات في وقت الفزع الأكبر عند التحام الصفين فقال سبحانه: (فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) ([7]) أي: فإن خفتم من عدو غاصب أو متغلب وقمتم لدفعه مجاهدين في سبيل الله؛ ففي وقت الملحمة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى, رجالا أو ركبانا، يعنى أن الرجل منكم وهو ماش في الملحمة يصلي الظهر والعصر والعشاء ركعتين ركعتين بالإيماء, إلا أنه يخفض للسجود أكثر من الركوع, مولياً وجهه حيث كان الشأن الداعي، ففى قوله: (رِجَالاً) أي: مشاة و(رُكْبَانًا) أي: على ظهور الخيل, أو وقوفاً خلف المدافع وفي أيديكم السيوف والمسكتات - البنادق - أو الرماح والحراب.

وفي قوله تعالى: (فَإِذَا أَمِنتُمْ) صورتان:

الصورة الأولى: النصرة على الأعداء, ونيل الغنيمة والأسرى, وفي هذا يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل الفزع, فنصلي كما علمنا الله جل جلاله في حالة الأمن.

والصورة الثانية - ولم يذكرها المفسرون -: (فَإِذَا أَمِنتُمْ) أي: رجع العدو عنكم إلى مرابطه، فإن الواجب شرعاً أن يقسم الإمامُ الجيشَ قسمين: قسم يقف على جبهة الجهاد, وقسم ينصرف معهم فيقيم بهم الصلاة.

فإن كانت صلاة ثنائية كصلاة السفر صلى بالقوم ركعة وأطال الوقوف, حتى يتم مَنْ خلفه الركعة الثانية, ويسلموا وينصرفوا إلى الواقفين على جبهة الجهاد, فيدركون الإمام واقفاً فيصلون معه ركعة, ويسلم الإمام ثم يقومون فيأتون بالثانية أفذاذاً.

وإن كانت الصلاة رباعية, صلى الإمام بالنصف الأول ركعتين, ووقف مطيلا الوقوف حتى يتموا الركعتين الثانيتين, وينصرفوا إلى المرابطين على الصف في الجبهة, فيسرعون إلى الإمام ويدركون معه الركعتين الثانيتين له الأولتين لهم عملا لا قولا، فإذا سلم الإمام وقفوا فأتوا بالركعتين الأولتين قولا, الأخيرتين عملا, وسلَّموا, فإن كانت الحكمة تقضي باتصالهم بإخوتهم المرابطين أسرعوا لهم، وإن لم يكن ثم فزع استراحوا إلى أن تنتهي المدة المعينة لهم عرفا.

رابعا: أن نطيع القائد ونبتعد عن الشهوات

لما أجمع بنو إسرائيل على أن يخرجوا لقتال العمالقة أراد الله أن يكشف لطالوت خبايا القوم، ليعلم من يصدق معه في القتال ممن ينقلب على عقبيه ليخرج معهم مطمئن القلب, وكان قبل خروجه احتاط لنفسه فقال: لا يخرج معي مَن بنى بيتا ولم يتمه, ولا مَن تزوج ولم يدخل بزوجته, ولا مشتغل بتجارة, ولكن يخرج معي الشباب الناهض.

فخرج معه ممن اختارهم ثمانون ألفاً أو أقل كما ورد، وأراد الله تعالى أن يمحص القوم حتى لا يكون مع طالوت إلا من يثق بهممهم وعزائمهم ورغبتهم في نيل ثواب الله تعالى وعلمهم بفناء الدنيا فقال تعالى: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) ([8] )، وفي تلك الآية سر غامض يتذوقه أهل الورع من المسلمين, لأن الله سبحانه وتعالى قد يهب العبد بسطة في الرزق, ويكون العبد ورعا زاهداً فيكتفى بالقليل من القوت مع قدرته على الشَّهِيِّ اللذيذ, لأن تلك الآية الشريفة تدل على أن الله يحب مِن عباده أهلَ الورع والزهد.

فإنه تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) وهم في أشد ما يكون من الظمأ من حرارة الصيف, فيكون امتناعهم عن الشراب مع توفر الدواعي دليلا على ورعهم ووقوفهم عند أمر الله تعالى, وتكون إطاعتهم لحظوظهم ونفوسهم الشهوانية دليلا على أنهم يحقرون أوامر الله ويجعلون الحكم منهم عليهم, والله تعالى تنزه عن أن تراه الأبصار أو تدركه العقول, ولكن ظهر لعباده في أمره ونهيه, فتعظيم الله محصور في تعظيم أمره, ومن أهان الأمر أهان الآمر.

فرجع اليهود إلى عادتهم من مخالفة الأنبياء والمسارعة إلى أهوائهم وحظوظهم, لذلك فإن الذين شربوا من النهر حُرِموا التوفيق والهداية ونصرة الله ونبيه, ومن امتنعوا حظوا بالصدق وبالنصرة والظفر وبالغنيمة وبالجنة يوم لا ينفع مال ولا بنون، نسأل الله أن يعيذنا من الابتلاء ومن الدخول في التجارب.

خامسا: أن نعتقد بأن العدد القليل المؤمن خير من الكثير الغير مؤمن

بيَّن الله لنا أن أهل الإيمان وحسن الظن به سبحانه هم الذين قال فيهم: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللَّهِ) لأنهم يعلمون علم يقين مؤيد بلقاء الله تعالى حتى كأنهم يشاهدون قوَّتَه وقدرتَه سبحانه على إهلاك أعدائهم, وفي قوله: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ([9]) دليل على انبلاج الحقائق لقلوبهم حتى تحققوا إطلاق قدرة الله, وكمال ملكه المطلق على عبده, ودرسوا تاريخ الأنبياء والملوك السابقين من أسفار نوح، والخليل, ولوط، وهود, وشعيب, وموسى, وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم, فكان العلم بتاريخ الأوائل - مع نور الإيمان الذي جعله الله في قلوبهم - يجعلهم على يقين تام بنصرة الله لهم لأنهم قاموا لنصرته سبحانه، قال تعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) ([10])، ومعنى الآية: كثير من فئات قليلة العَدَد والعُدَد غلبت فئات كثيرة العَدَد والعُدَد, وذلك بإذن الله, أي: بتقديره تعالى وقوته، ( وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي: ونصرة الله وتأييده وقوته مع الصابرين الذين ملأوا قلوبهم يقيناً, فألقوا بأنفسهم أمام العدو القوي غير مبالين بما يصيبهم في سبيل الله.

 سادسا: أن ننصر الله على أنفسنا

وفي الشرط السادس من شروط الجهاد يورد الإمامُ قول الله تعالى: ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ([11])، ويعقِّب قائلا: يظهر لي هنا - والله أعلم بمراده - أن المسلم ينصره الله على نفسه بقبول توحيده وتصديقه لرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومحافظته على عبادته مع الرضا عنه سبحانه وتعالى فيما قضى وقدَّر, قاهراً نفسه إذا هي نازعته أو شذت منه، حتى يسلم لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تسليما, ولا يكون ذلك للمؤمنين إلا بمعونة الله وتوفيقه.

ومتى جمَّل اللهُ المسلمَ بهذا الجمال أقامه مقام العامل له سبحانه, ومنحه الهمة والغيرة لله مجاهداً في سبيل الله أعداءه الخارجين عنه بعد مجاهدة أعداء الله في نفسه, فينصره الله تعالى ويمكِّن له في الأرض ويهب له العزة التي وعده بها في القرآن.

ومن نصرة الله: نصرة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهي قهر النفس على العمل بوصاياه والتشبه به - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يكون أشبه الخلق به صلوات الله عليه, وبذلك يكون صورة محمدية كاملة، يسخر الله له بها ملكه وملكوته، فيلبيه إذا دعا, ويجيبه إذا سأل, ويغنيه عن شرار خلقه, وينفعه وينفع به في الدنيا والآخرة, وكفاه نصرة من الله تعالى ما بشره به الله سبحانه في القرآن.

قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ([12]) أي: ينفذ ما قضاه سبحانه بقوة وبطش لا يعجزه شيء، فلا يحتاج سبحانه في إهلاك أعدائه إلى معين من عباده من جيش أو آلات حربية أو سياسة أو تدبير, ولكن أمرنا سبحانه بالجهاد لا لعجز واحتياج، بل ليقيمنا فيما يحبه ويرضاه لنكون يوم القيامة على منابر من نور أمام وجهه الكريم, في جوار الأطهار من الرسل والأخيار.

 

 

(1) سورة الشورى آية: 30-31.

([2]) سورة يس آية: 82.

([3]) سورة البقرة آية: 244.

([4]) سورة البقرة آية: 246.

([5]) سورة التوبة آية: 111.

([6]) سورة سبإ آية: 13.

([7]) سورة البقرة آية: 239.

([8]) سورة البقرة آية: 249.

([9]) سورة البقرة آية: 249.

([10]) سورة محمد آية: 7.

([11]) سورة الحج آية: 40.

([12]) سورة الحج آية: 40.