من أسرار القرآن فى شهر رمضان

26/03/2022
شارك المقالة:

 قوله تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (سورة البقرة : 185)

 

عين الله لنا زمان فريضة الصوم بعد أن قال سبحانه (أياما معدودات) فشهر رمضان بدل من الصيام فى قوله سبحانه ( كتب عليكم الصيام ) ولك أن تقول أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ لخبر محذوف ومعنى ((شهر)) الشهرة لأن الشهر مواقيت لمصالح الناس وقضاء حوائجهم. ومعنى رمضان مأخوذ من الرمضاء التى ترمض فيه الفصال من حرارة الصيف، وسُمّىَّ بهذا الاسم لأنه جاء فى زمن الصيف حال التسمية وجائز أن تقول: ترمض فيه معاصى العباد أى تزول بالصيام.

( الذى أنزل فيه القرآن ) : أى الموصوف بإنزال القرآن. ومعلوم أن القرآن أنزل نجوما متفرقة، فكيف يصح أن يكون أنزل فى رمضان؟! والجواب أن القرآن نسخته السفرة الكرام من أم الكتاب ليلة النصف من شعبان إلى ليلة الرابع والعشرين من شهر رمضان وأُنزل إلى سماء الدنيا فى الليلة الخامسة والعشرون منه، وجائز أن يفتتح الله إنزال بعضه فى رمضان فيكون كإنزال الكل.

( هدى للناس ) أى بيانا لما فيه سعادة العالم فى دينهم وأخراهم وفى مصالحهم الدنيوية.

 (وبينات من الهدى والفرقان) أى مبينة للحقائق التى بها تزكية النفوس، وتثقيف العقول، وعمارة القلوب بالغيب المصون، الذى ترتسم أسراره على جواهر النفوس. وهذا معنى (من الهدى).

 وقوله (والفرقان) أى الايات الفارقة بين الحق والباطل فيما يتعلق بالأخلاق والآداب الاجتماعية المنزلية وبالمجتمعات فى المدن وبالمجتمع العام الإسلامى وما يتعلق بتلك من أحكام فى المعاملات التى تقتضى المعارضات والمفاوضات، وقد ينتج منها المعارضات فبهذا الفرقان يظهر العدل والميزان. فهذا الكتاب الذى أنزله الله على نبيه عليه الصلاة والسلام جامع لما يلزم الفرد والمجتمع من عقائد التوحيد ومن عبادة الله تعالى ومن أخلاق ومعاملات، من أول وضع النطفة فى رحم الأم إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، قال على عليه السلام (لو ضاع منى عقال بعير لوجدته فى كتاب الله).

وإنما سعد سلف الأمة بالعمل بما أنزله الله على نبيه عليه الصلاة والسلام وما ذل من ذل من الخلف حتى تمكن منهم من كانوا بالأمس عبيدا يباعون فى أسواقهم من بنى الأصفر إلا بمخالفة هذا الكتاب المجيد قال أبو هريرة رضى الله عنه: (إنما يسعد آخر هذه الأمة بما سعد به أولها).

قوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) أى من أدركه الشهر وهو بين أهله فالحكم صيامه ، وقد تعينت فريضة صوم رمضان بقوله تعالى: ( كتب عليكم الصيام ) وبقوله تعالى: (فليصمه) فى تلك الآية إشارة روحانية وهى أن تلقى هذا الكتاب المجيد لا يكون إلا بالروح المجردة من ملابسة مقتضيات الهيكل الإنسانى.وإنما تحجب الروح بميل هذا الهيكل إلى لوازمه الضرورية والكمالية، وحرصها على تحصيلها وبذلك تحجب الروح عن مكاشفة الغيوب، بشغل الجوارح فيما يدعوا إليه الجسم، يأمرنا الله بصوم الشهر الذى أنزل فيه الكتاب، لأن الصيام رياضة تصفوا بها النفس فتتلقى أسرار القدس، لأن تلك الأسرار العلية لا تجانس المادة ولوازمها، ففرض الله علينا تزكية النفس بالصيام لتتأهل لقبول تلك الأسرار، ومن هذا نعلم أن السالك إلى الله تعالى يجب أن يجعل له رياضة خاصة بجهاد قاهر يكبح به جماح النفس، من الطمع فى غير مطمع مما أباحه الله تعالى لنا مما يقوى به الدم، وتنفتح له العروق ويجعل الإنسان كالسبع الضارى لا يتسلى عن مألوفه، وقد عين الله تعالى زمن الصيام محدودا بعد أن أخبر عنه فى الآية السابقة بأيام معدودات ولم يرد حكم صريح يعين عددها وزمانها إلا هذه الآية.

 (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) تقدم تأويلها ولم تأت هذه الآية هنا تكرارا لأنها بيان وتفسير للآية السابقة فى التأويل الذى أولناه أن الآية السابقة المراد بها رمضان ولم يذكر هنا سبحانه (وعلى الذين يطيقونه) على هذا التأويل ببقائها على حكمها. وقد بينت ذلك محصورا فى الرجل الكهل والمراة العجوز وفى المرضع والحبلى كما قررنا.

(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العُسر) وقبل أن نكتب تأويل هذه الآية نبين سرا يجب رعايته. يقول الله تعالى (يريد الله) لفظة (يريد) هنا ليست من الإرادة الواجبة الوقوع بل هى من الإرادة المحبوبة لله التى هى الأمر. فإن الإرادة قسمان قسم واجب الوقوع وهى بمعنى قدر وقضى، وإرادة محبوبة وهى ممكنة الوقوع وهى بمعنى أمر ورغب كما قال تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم) وقال سبحانه (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) أى لا يأمر الله بالجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، وهنا يأمركم الله بالإفطار فى حالة المرض والسفر تخفيفا عنكم بدليل قوله تعالى: (وأن تصوموا خير لكم) لأنها لو كانت من الإرادات الواجبة الوقوع لم يقل تعالى (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) وبهذه الآية يظهر لنا جليا أن الله تعالى لم يكلفنا بهذه الأحكام ليشق علينا أو يكلفنا ما لا نطيق، إنما ذلك لتظهر محبتنا له وإيثارنا لأوامره العلية وإخلاصنا لذاته فى معاملاتنا وعبادتنا وأقوالنا وأحوالنا.