شارك المقالة:

الحقيقة المحمدية ... وجمال العود للبدء :   

معلوم أن أول الإرادة آخر العمل ، وأول مراد الله تعالى هو حبيبه ومصطفاه ﴿ صلى الله عليه وآله وسلم ﴾. 

وسبق في علمه أنه حبيبه ومصطفاه ، وأنه الإنسان الكلي المُمِد لجميع العوالم ، وخلق جميع الخلائق له ﴿ صلى الله عليه وآله وسلم ﴾ كما ورد في الحديث بسند الإمام محمد بن سهل رضي الله عنه في تفسيره للقرآن ، يقول الله تعالى : (إني خلقت محمدا لذاتي ، وخلقت آدم لمحمد ، وخلقت كل شيء لبني آدم ) إلى آخر الحديث .
   أبرز الله الكون متطورًا أطوارا ليعده لإشراق شمس حبيبه ومصطفاه ، فكان ﴿ صلى الله عليه وآله وسلم ﴾ فاتحا خاتما ، كما قال علي عليه السلام : ( اللهم صل على محمد الفاتح لما أغلق ، والخاتم لما سبق ، والناصر الحق بالحق وآله ) .
   أشرقت شمسه ﴿ صلى الله عليه وآله وسلم ﴾ بالنور العام الدائم الذي لا يغيب ، لأن شمسه لا تأفل كما قال عبد القادر الجيلاني رحمه الله :

أفلـت شموس الأولين وشمسنـا       أبدا علـى فلك العلا لا تغـرب

   فجعله الله تعالى فاتحة الإيجاد ، وخاتمة للرسل فلا نبي بعده أرسله الله رحمة للعالمين ، وسراجا منيرا أسرج سرج الرسل والأنبياء من قبله ، والصديقين والشهداء من بعده ، سماه الله سراجا منيرا [1] ، ولم يسمه شمسا ، لأن السراج يسرج غيره ، ولكن الشمس لا تجعل شمسا غيرها ، وهو ﴿ صلى الله عليه وآله وسلم ﴾ أول الإرادة وآخر العمل .
   وهنا أبسط لك بساط المؤانسة لتلحظ بعيون روحك وميضا من سر منازلاته ﴿ صلى الله عليه وآله وسلم ﴾، وتقتبس بسرك قبسا من مشكاته المحمدية ، تكون به متجملا باليقين الحق في مقام  العبودية المطلقة .
   إن مقتضى كمال الأسماء والصفات إبراز المرائي التي تظهر فيها تلك المعاني ، ولما كان العالم أجمع إنما خلقه الله تعالى ليظهر سبحانه ببدائع إبداع صنعه ، وغرائب حكمته وعجائب قدرته ، وظهوره إما لنفسه فاعلا مختارا ، أو لخلقه ربا معبودا قهارا اقتضت إرادته الأزلية تعيين حقيقة كاملة قابلة لكمال تجليه ، وظهور معانيه ، فكانت تلك الحقيقة المختارة لحضرته : هي حقيقة سيدنا ومولانا رسول الله ﴿ صلى الله عليه وآله وسلم﴾.
   اقتضت تلك الحقيقة في حضرة العلم مقتضياتها التي بها تكون سدرة منتهى علوم الخلائق المغشية بكمال ظهور المعاني - معاني الأسماء الربانية - مظهرًا أكمل لكمال المعاني المناسبة لحضرة الألوهة من العبودة والعبودية والعبادة ، روحا وعقلا وجسما  وحسا ، ومقتضيات تلك الحقيقة ظهور :
( أ ) عالم يطيع فلا يعصى ، وهو ثلاثة أنواع :
1 - أعلى عليين ، وهم الآلهون المهيمون بجلال الله فوق عمار سماواته .
2 - وعالون ، وهم الحافون بعرش الرحمن ، ومنهم الكربيون .
3 - وعمار السموات ، وملكوت الأرض ، وهم الملائكة المقربون .
( ب ) ونوع يعصى ولا يطيع ، وهم المردة وشياطين الجن .
( ج ) واقتضى الكمال الرباني أن تكوم حقيقة أخرى قابلة للطاعة والمعصية ، ليتم ظهور معاني الصفات ، فخلق سبحانه آدم ، ورفعه على الملائكة ،قال تعالى : ( وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْـمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ •  قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْـمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ) البقرة: ٣١ – ٣٢ وآدم علم الملائكة بعض الأسماء فكان آدم محيطا بكل الأسماء والملائكة في حاجة إلى تعلم بعضها منه ( أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ) [البقرة: ٣٣].
   ظهر مقتضى إرادة الله في تلك الحقيقة ، فأطاع آدم وعصى قال تعالى : ( وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) [طه: ١٢١]  إبرازًا  لسر الإرادة ، وإظهارًا لتجلي الاسم التواب ، الغفور العفو ، وتنبيها لأولاده من بعده أن يسرعوا بالتوبة إذا أخطأوا ، فانبلجت حقيقة إرادة الله تعالى في إظهار آدم.
   افتتح سبحانه وتعالى إبراز تلك الحقائق بآدام ليكاشف من اجتباهم بحقيقة نشأتهم الأولى أنها من أركان الوجود : التراب ، والماء ، الهواء ، والنار فيعلم الإنسان نشأته الأولى فيقف موقف العبد خشوعا لربه ؛ ولذلك فالله تعالى كرر تلك الحقيقة في القرآن أكثر مما كرر غيرها ، وهي الدواء الأخير لمرض الشرك المنزل منزلة الكي في المرض العضال ، فكم قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ •  ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ) [المؤمنون: ١٢ - ١٣] فأثبت أن نشأة الإنسان الأولى من طين ، أو ماء مهين ، ليستحضر عند إسباغ آلاء الله عليه رتبته الأولى ، شاكرا الله على جزيل نعماه ، وإني أبين لك في هذه العجالة ما يمكن أن يحيط به عبد ووجه بأنوار تلك المكانة المحمدية على قدره لا على قدر مكانتها من الله ، قال سبحانه : ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْـمِ إِلَّا قَلِيلًا ) [الإسراء: ٨٥].

الحياة .... بدءا
هى الحياة حياة مشاهد القدس         بها الصفا فى مقام القرب والأنس
حياة روحى إذا شهدت ضيا أزل          متنزلا نوره من طلعة الشمس
من التنزل فى حال الصفاء أرى       نور الجميل بلا عرش ولا كرسى
يستر الكون وجه الحق يشرق لى          يحيط بى فترى أسراره نفسى
كأننى فى صفا حالى له مثل             مواجه وجهه لا روض فرودس

         ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من كتاب 

نعيم القبر وجمالات الآخرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] إشارة إلى قوله تعالى : (  يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا •  وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ) [سورة الأحزاب آية ٤٥ - ٦٤ ]