إقامة الإمام الدائمة بمصر

05/03/2021
شارك المقالة:

وعاد الإمام المجدد إلى مصر بعد هجرته إلى السودان وقد سعرت فيه تجربته روح التحدى بالإضافة إلى علمه الغزير، فاتسعت آفاق نضاله فى كل بقعة من بقاع الوطن الإسلامى، فكل بلاد المسلمين وطن لكل المسلمين. وكل مسلم مواطن تجب عليه الحماية وواجبه له الرعاية، والأخوة الإسلامية لها قيوميتها ومقتضياتها، فهى حق وواجب، حق لكل ضعيف وواجب على قوى. واليد العليا فيها خير من اليد السفلى، والبذل فى إطارها سخاء وتزكية يتناسبان مع سعة المسلم وطاقته، فالغنى يسخوا بماله على المعوز الفقير، والقوى يأخذ بيد الضعيف ويساعده، والمبصر يقود الأعمى ويجنبه شر العثرات والمزالق، أما العالم فسخاؤه بعلمه يبذله ولا يكتمه. وهكذا عاد الإمام إلى الوطن عالماً لا يضن بعلمه على من هو فى حاجه إليه، فهو معلم سجيته أن يعلم، وعلمه متاح لا لمن يسعى إلى طلبه فحسب بل إنه كان يسعى هو إلى من يتوسم أنهم فى حاجه إليه، فكانت ساعاته موزعة بالقسطاس بين من يفدون إليه فى مقره طلباً لعلمه وبين السعى فى زيارات- حتى للمواقع النائية، إلى من يرى ببصيرته أنهم فى حاجة إلى هذا العلم. فصار مقره فى القاهرة كعبة يقصدها طلاب العلم، كما صارت النوادى الثقافية والمنتديات العلمية فى كل مدن مصر والمساجد فى كل مدينة أو قرية مزاراً له تتضوع فيها أفكاره، وتتلألأ فى أجوائها فريدات مبادىء دينه، وتلمع فى جنباتها ومضات علمه.

ومن ثم أصبح النشاط العزمى فى مصر امتداداً للنشاط العزمى فى السودان، وكان الإمام المجدد من ذوى النفوس الكبار، ومن شأن كبار النفوس هؤلاء أنهم يستعذبون الآلام لتحقيق الآمال، وقليل ما هم، و لكنهم وحدهم الذين دفعوا بالإنسانية قفزات إلى الأمام فى طريق التطور إلى الحياة الأفضل.

ومن البديهى أن يستنتج القارىء أن الأستعمار البريطانى فى مصر كانت مناهضته هدفاً استراتيجياً للإمام أبى العزائم كما كان الحال فى السودان، ومع تضافر الجهود الوطنية فى مصر ضد الاحتلال قامت ثورة 1919م، وكان الإمام المجدد من أوائل الذين قبضت عليهم السلطات البريطانية وأودع السجن فى محاوله منها لوأد هذه الثورة فى مهدها، وكان معه ولده الأكبر السيد أحمد محمد ماضى أبو العزائم الذى كان ملازماً لوالده ملازمة كاملة، ليس له طلب فى الدنيا إلا أن يشارك أباه نضاله ويشد أزره وينظم له برامج تنقلاته ويرعى شئونه الشخصية وينشر دعوته ويردد عنه أفكاره ومبادئه، فأصبح خليفته الأول بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.

ومن كانت طبيعته العطاء فإن عطاءه لا يتوقف، ولذلك كان الإمام فى السجن كما كان خارجه كالبحر الزاخر الهادر لا توقفه سدود ولا تحده قيود، فلم يلبث إلا أن صار مجتمع السجن كله- مساجين وحراساً وضباطاً- من أتباعه والمتحمسين لدعوته ومبادئه. وانتقلت أنباء النشاط العزمى إلى مسامع طغاة الإحتلال البريطانى، فذهب أحد طواغيتهم ليتحقق من واقع الأمور بنفسه، وكان هذا الطاغوت هو رسل باشا الذى يشغل حكمدار القاهرة ولكن نفوذه وسلطاته الغاشمه تتعدى حدود منصبه إلى جميع أنحاء القطر المصرى بسائر مدنه ودساكره وقراه.

فماذا رأى رسل باشا؟؟ لقد وصل إلى السجن وقت صلاة الظهر، فرأى أن جميع المسجونين ومعهم جميع جنود الحراسة بالسجن ومن بينهم ضباطهم قد اكتظ بهم الفناء الأكبر للسجن صفوفاً يؤدون الصلاة خلف الإمام المجدد الذى ختم الصلاة وانبرى إلى المؤمومين يدعو بأن يخلص الله الوطن من الاستعمار اللعين وأعوانه، والمصلون من خلفه يؤمنون. وكان صوت الإمام يهدر بالدعاء عميقاً جهورياً، وصوت المصلين بالتأمين يعلوا ليصل إلى عنان السماء قوياً راسخاً ثابتاً، مما جعل رسل باشا يرتعب وترتعد فرائصه مما أدى به أن يكتشف أن هذا الإمام فى سجنه يشكل خطورة أكبر من خطورته خارجه، فنفاه من السجن بأن أمر بالإفراج عنه مع ابنه فوراً. فخرج يستأنف سعيه ونشاطه، وكان مناط دعوة الإمام المجدد هو الإيمان بالعقيدة الإسلامية، وتعميق هذا الإيمان كان ركيزه أساسية فى استراتيجيته وتكتيكاته، لأن الإيمان بالله إذا تعدى مرحلة التصديق المجرد وازداد عمقه فى أفئدة المسلمين فإن الإيمان فى نفس المسلم رق الحجاب بينه وبين خالقه واستشعر لذة القرب، فصفت روحه، وتزكت نفسه، وترقق وجدانه وتذوق لذة الحقيقة التى لم يكن يدركها بمجرد عقله، فجهد ممعناً فى التزام الطاعات، وانكب على ذكر الله، واشتدت فى فرائصه تقوى الخالق وسيطرت على كل كيانه ليتأكد قربه من الله ويزداد، والله قد وعد هؤلاء المتقربين بإخلاص إليه أن يكون أقرب إليهم من حبل الوريد، ووعد الله منجز حقاً لا محالة.

ومن ثم فإن حلقات العلم وندوات الثقافة والفكر التى تأسست على نشاط الإمام العالم بالشريعة قد تحولت تلقائياً إلى مجامع تسودها التقوى والتقرب إلى الله بدوتم ذكره والإمعان فى طاعته. ومن ثم أيضاً تحولت جماعة آل العزائم إلى الطريقة العزمية التى ما فتئت حتى اليوم تغذى العقل بعلوم الشريعة الحقة وتزكى النفس بإيصالها- بطريق مأمون- إلى تذوق الحقيقة التى يهبها الله لمن يقمعون الغرائز ويزهدون فى بهرج الحياة ويجتهدون فى طاعته وتقواه. وبذلك كانت الطريقة العزمية النموذج الأمثل للتصوف الطاهر الزاهد الواعى الخالى من كل شوائب الرياء والارتزاق والبدع وابتزاز المريدين والأتباع. فهى طريق الله ليس لها من هدف سوى الاستغراق فى مرضاة الله وطاعته وتقواه  [1].

      كيف استقر به المقام فى مصر:

 إن الإمام قد أمضى الفترة ما بين عامى 1915-1917م بالمطاهرة بمحافظة المنيا عندما عاد من الخرطوم محددة إقامته نظير حربه الشعواء، سواء بالفكر أو الدين أو تحفيز الهمم على الجهاد والثورة على الإستعمار الغاشم وتربية جيل فى السودان يحمل أمانة الدعوة فى تحرير الأرض المحتلة. وقد جاء إلى مصر ليقيم إقامة دائمة بها ويستمر دوره الجهادى امتداداً لما أقامه بالسودان، فقام بإصدار مجلة الفاتح من عام 1915م حتى 1920م. ومع أن إقامة الإمام كانت محددة فى منزلة بالمطاهرة إلا أنه كان يتجول فى القرى والبلاد المجاورة وذلك عن طريق وساطة محبيه، فقد توسط رئيس الوزراء- وكان محباً وتلميذاً للإمام منذ فترة طويلة- فى تيسير انتشار الإمام فى دائرة أوسع وهذا مما سيتيح فرصة أكبر للسلطة الإنجليز بالبلاد فى معرفة حركات ومخططات ونوايا الإمام!! فوجد هذا الرأى استحساناً كبيراً!!. وأمام هذا التسهيل كان الإمام يجتمع برجال ثورة 1919م!!.

وأمام هذه المسئولية الجديدة للإمام، طلب الأحباب أيضاً نقل الإمام للإقامة فى القاهرة عاصمة مصر. وفعلاً تمت الإقامة الجديدة، وكان منزلة تحت الرقابة الشديدة من قبل الإنجليز ورجال السلطة المصرية. وكان الإمام إذا عمل احتفالاً دينياً لمناسبة معينة تتطلب تجمعات بشرية، فقد كانت القوات البريطانية تقوم بالتفتيش المستمر فى هذا اليوم لجميع أنحاء المنزل بحثاً عن وجود أسلحة أو منشورات أو اشخاص مشتبه فيهم أو خلافه.

وأول ما سكن الإمام فى القاهرة كان فى منطقة تسمى جنينة ناميش بمنطقة الخليج المصرى [2] ، ثم استأجر سراى الحنفى  [3] بعطفة الفريق بسوق مسكة من وزارة الأوقاف، وهى قصر فسيح كان لأحد القواد الترك تبلغ مساحة مبانية فداناً تقريباً. وكانت عبارة عن عدة مبان يتوسطها ميدان فسيح، وكان باب القصر ضخماً مثل أبواب مصر الكبيرة المبنية بالأحجار العالية، وكانت سيارات النقل الضخمة تدخل منها وتسير فى الساحة الكبيرة. وقد بنى بها زاوية صارت ضريحاً له بعد انتقاله وألحقت بمسجده الآن. والدار مقسمة إلى أقسام كثيرة: قسم لسكنى العائلة وهى لم تشغل ثلث الدار، والثلثان الآخران لطلاب العلم والعبادة، وبها قسم لراحة الأغراب من الشعوب النائية والوافدين من جميع البلدان لا فرق فى هذه الدار بين المقيم القاطن والغريب النازل، تغلق مساجد القاهرة وبابها لا يغلق إلا بعد الثانية صباحاً وهذا حسب أمر الإمامرضوان الله عليه، ولا تجد عند دخولك فى أى وقت مهما كان متأخراً من الليل من يمنعك، ولا تجد بواباً يوقفك عند الدخول حسب عادة المنازل، وكأنها قسم من المصالح العامة.

وبعد دخول الإمام هذا القصر مباشرة أراد أن يجعل فى الحديقة أو الحوش مكاناً لإخراج ماء الوضوء، وقد نفذ الإخوان ذلك. وبعد صلاة الفجر أقيمت الحضرة، وبعد انتهائها دخل الإمام ليستريح ومعه السيد أحمد نجله والشيخ العقاد، وبقى من الإخوان الشيخ خلف والشيخ قطب من آبا الوقف وإخوان المنيا يحفرون حتى وصلوا إلى مكان وجدوا فيه كنزاً من الذهب، فقام أحدهم يجرى حتى وصل إلى الإمام وقال له لقد أكرمنا الله وأسعدنا وأغنانا من فضله، لقد وجدنا كنزاً. غضب الإمام غضباً شديداً ثم توجه إلى الله قائلاً: ياربى أغضبت علىّ وعلى أولادى حتى تبتلينى؟؟ اللهم ارفع مقتك وغضبك عنى، اللهم إنى لا أرجوها.. يا أبنائى: لا يوجد ذهب ولا غيره. ثم سبق الإخوان ونزل رضوان الله عليه فى المكان الذى يدعون أن فيه كنزاً وقال: والله يا إخوانى ما هذا إلا تراب. ثم اخذ بيد السيد أحمد نجله الأكبر وبيد الشيخ العقاد ورفعهما وقال: والله لو أعطانى ربى الدنيا لوهبتها لليهود لا أن أهبها لكم ولا أرضاها لكم، إن أغنى أغنياء الدنيا هم اليهود، وأنتم أغنياء بالله ورسوله. وما أن سرى عنه إلا واطمأن واستبشر أن الله سبحانه وتعالى كشف عنه البلاء، لأنه خشى أن يتحول حب الله الله ورسوله فى قلوب تلاميذه إلى حب الدنيا [4].وبعد أن دخل الإمام قصر الحنفى هذا، اكتشف الأخوان وجود امرأه تدعى (الدمياطية) وأولادها تسكن فى جناح من أجنحة القصر، ورفضت الخروج فأبقاها الإمام رحمة منه. وقد تبين بعد ذلك أنها كانت تفعل ماينافى الآداب، وتتجر فى المخدرات. ولما أصبح البيت مقصداً للإخوان وللزوار وفى أى وقت، فلم تستطع أن تفعل ما كانت تفعله، وبدأت تؤذى الإمام أشد الأذى، وتعمل حفلات رقص وصخب للتشويش وقت الذكر والعلم والإمام يدعوا أن يصلح الله حالها. وكانت تدخل على الإمام وهو يلقى الدرس وتشتمه وتتهمه فى أشياء منافية للآداب وبأقذر الألفاظ رغبة فى أن يترك الإمام لها المكان ويبحث عن غيره، والإخوان يريدون ضربها وطردها فيقول لهم: احمدوا الله أن أباكم الشيخ لم يحرم من صورة حمالة الحطب فى هذا الزمان، أرسلوا لها أكلها وأكل أولادها وأعطوها نقوداً لتخرج، وهى يزداد إصرارها على الرفض ولما اشتد ضيقها من الإمام، وهو صاحب البيت، ظلت تجمع من مخلفات دورة المياة، وألقت بها على الإمام حتى غطى العمامة والملابس كلها وهو خارج لصلاة الجمعة، عندئذ تحرك قلبه إلى الله، ورجع إلى غرفته حامداً ربه وشاكراً فضله واغتسل مرة أخرى وغير ملابسه ونزل للمسجد وسط إخوانه مهللين مكبرين ومنشدين وعلى مرآى منها. وزاد غضب المرأة وقررت أن تفعل شيئاً نهائياً يشفى غليلها لعل الإمام يخرج من القصر ويتركه لها فتكون لها اليد الطولى فيه وعندئذ تفعل ما تريد والعياذ بالله.

لقد تحرك قلب الإمام إلى ربه، وكانت إرادة الله عز وجل سابقة فى أن تخرج هذه المرأه من القصر بعد أن تشاهد بنفسها أن هذا الإمام من الذين أعطاهم الله الكلمة الصادقة والدعوة المستجابة. لقد أشعلت النار فى مخزن كان يخص السيد محمد أبا الحسن ابن الإمام، فكان يدخل المزادات ويشترى البضائع ويخزنها فى هذا المخزن لحين بيعها، وكان هذا المخزن فى البدروم الكائن تحت سكن الإمام مباشرة. وارتفعت ألسنة النار حتى وصلت إلى الحجرة التى ينام بها الإمام، فتوجه الإمام ناحية النار ثم تفل عليها قائلاً الله أكبر فانطفأت جميع النار مرة واحدة، والمرأة تشاهد هذا الموقف، فأدخل الله الرعب فى قلبها مما رأته، فما كان منها إلا أن أخذت أمتعتها ورحلت هى وأولادها وهى خائفة إلى غير رجعة، وأراحت الإمام وكذلك الإخوان من شرها، وقال الإمام للإخوان: بصبركم عليها يا أولادى ربنا أخلى لكم المكان. لم يوجهها الإمام إلا بالحسنة والصبر، فكان يقدم لها الطعام والمال وتحمل أذيتها، وكلما تزيد هذه المرأه فى أذيتها

هكلما واجهها الإمام بالعطاء المتزايد، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كان يتحمل إيذاء اليهودى يومياً وهو يضع أمام البيت ما يؤذى النبى عند خروجه فكان يرفع ما وضعه اليهودى وينظف المكان، وفى النهاية أسلم اليهودى.

كان منزله بمصر كعبة وفود الأمم الإسلامية من مختلف الأجناس، ومحط أنظار سفراء الممالك الإسلامية وعظماء مصر ممن لم يحجبهم حجاب المعاصرة والمجانسة، فكان رضوان الله عليه- ولا تأخذه فى الحق لومة لائم- يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أياً كان.

واتسع أمامه مجال الدعوة إلى الله تعالى فأسس مجلة ( المدينة المنورة) – التى بدأ صدورها عام 1920م واستمرت لسنوات طوال بعد انتقاله إلى جوار ربه- حاملة لواء العلم الصحيح، ينشر بها الدين وتعاليمه وأخبار الصحابة فى هذا العصر المظلم، حتى أراد الله أن يتم مقصده فأقبل عليه من أراد الله أن يجعل لهم نوراً يسعون به ومنهم الذين ينطقون وينشرون فضله فى هذه المجلة.

لقد دافع عن حرمة الدين كما بث روح الغيرة على الوطن الإسلامى بين المسلمين، فالوطنية المصرية إنما تدين له بإذكاء نارها وتأجج إزارها بين الشباب المتعلم الذين قذف بهم للعمل فى خلاص الوطن من رتقة الاستعباد، مبيناً لهم فى داره فضل الجهاد وما فيه من مزية وأجر قد لا يحلم به العباد.ثم لم يقف به الحد عند هذه الدائرة الضيقة بالديار المصرية فحسب بل هب لتنبيه المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها بالنذر الكتابية وبالكتب التى كان يمليها على أهل خاصته ثم يوزعها بلا مقابل فى الهند وجاوه والصين واليمن والحجاز والترك وبلاد العجم، كل ذلك كان ابتغاء رضوان الله تعالى.لقد كان يبتدأ الكتاب الصغير صبيحة الجمعة ثم يفرغ منه إنشاءً فجر الأثنين الذى يليه ثم يطبعه ويجتهد أهل بيته وخاصته فى إدارة المطبعة فلا راحة للكل حتى يطبع ويوزع، لا رغبة فى المال..فقد كان متوفراً لديه.

أعيى الإنجليز أمره فى السودان وفكروا فى الخلاص منه، فكان جذوة تركها بين أبنائه الناشئين فى ذلك القطر الشقيق، وجاء مصر فألهبها غيرة وحماسة فى التفكير للخلاص من هذا الداء الوبيل والكابوس الثقيل حتى قامت الثورة فكان سعد زغلول علمها الظاهر وكان الإمام المحرك لأفراد الأمة إلى هذا العمل الباهر.

وكانت للدروس التى ألقاها بالقاهرة فضل كبير فى إيقاظ الشعور بين طبقات الأمة السودانية، فما حر أبى رفع رأسه فى النهضات الإسلامية الوطنية منذ أن رحل الإمام أبو العزائم عن السودان سنة 1915م إلا وهو يدين بهذا الشعور وهذه الروح القوية التى تسوقه سوقاً إلى ميادين الجهاد وتشعل النار فى قلوب السودانيين حقداً على الغاصبين. وقد كان حين عم هذا الوعى الإسلامى فى بلاد السودان 1924م حين ثارت فصيلة على عبد اللطيف وبعض إخوانه على جيش الإنجليز المدجج بالسلاح والعتاد وكادت الدائرة تدور عليه لولا خيانة أعداء الحرية من أرباب السلطة فى ذلك الحين الذين اتخذهم الإنجليز مخلب القط فسلم الجيش المصرى تسليماً مخزياً لأعدائه الإنجليز.

إن البطل على عبد اللطيف حين سأله القاضى الإنجليزى أبان محاكمته: من أين لك هذه الروح القوية الوطنية؟ فأجابه على الفور: من شيخ مصرى يدعى محمد ماضى أبو العزائم كان يخصنا بها فى دروسه بالكلية وعظاته بمسجد الخرطوم الذى ألهب بها قلوبنا حين كان يقول: إن الإسلام وطن وإن ذلك الوطن يجب أن يحرروإن كل قاعد عن التحرير هو مشرك بالله لن ينال رضاه وإن صلى وصام وحج البيت وإن الجهاد فريضه على كل مسلم حر قادر كسائر الفرائض.

مصاعب نشر الدعوة:

وقد لقى الإمام من المصاعب الكثير فى سبيل نشر الدعوة، وكان ربه يكرمه بالمكاشفات اليقينية عما يدور بخلد المريدن وهو روح الدعوة وسر نجاحها، قال تعالى: (وقل لهم فى أنفسهم قولاً بليغاً)  [5]، وكان دائماً ما يقول: (المرشد: من لا يحجبه عن أولاده شبر من تراب) .

ومما روى عن كلاءة الله تعالى للإمام وحفظه له من شر الأشرار وكيد الفجار، أن جماعة من المعاندين اتفقوا فيما بينهم أن يحدثوا ضجيجاً أثناء إلقاء الإمام لخطبة الجمعة، حتى لا يسمع أحد من المصلين شيئاً من الخطبة. وكان الشيخ مفتاح ضمن من هم مع الإمام. وفى الوقت المناسب فاجأ الإمام الشيخ مفتاح بأن طلب منه أن يخطب الجمعة، فصعد المنبر، وجعل يخطب والناس ينصتون فى خشوع وأدب، وبذلك فاتت الفرصه على هؤلاء المعاندين بأن يضايقوا الإمام، ولكن واحد منهم لم يهن عليه هذا الموقف فبدأ فى السعال المصطنع، وظل كذلك إلى أن صار السعال حقيقياً، وظل كذلك حتى مات فى المسجد.

ومما روى أن جماعة اتفقوا على سبيل السخرية أن يأتى أحدهم الإمام وهو على جنابة ويطلب منه البيعة فقال له: اذهب إلى أمك التى ضربتها وأخذت منها الريال، ثم بعد أن ترضيها وتصفح عنك تذهب لتتطهر ثم تأتينا لأخذ البيعه. تعجب الرجل كيف أن الإمام كاشفه بالحقيقة، ففعل ما أوصاه الإمام به، ثم رجع إليه يطلب البيعة بصدق، فمد له الإمام يده. مما روى أيضاً أن الإمام كان يلقى درساً فى أحد مساجد السويس، وكان من الحاضرين متعالم اسمه الشعشاعى جلس يستمع للإمام لاصطياد خطأ فى كلامه، ولما لم يجد سأل سؤالاً يتعلق بالقضاء والقدر، وهو بعيد عن موضوع الدرس، وذكر قول القائل:

ألقاه فى اليم مكتوفاً وقال له 

        إياك إياك أن تبتل بالماء

   وكأنه يريد أن يقول: قدر الله علىّ المعاصى وألقانى فيها وقال إياك أن تعصنى.

وأصاب الحيرة بعض الجالسين، فرد الإمام بقوله اسمع يا شعشاعى، أيها أشد؟ النار أم الماء؟ قال النار، قال الإمام: ما تقول فى أن الله عز وجل أوقع الخليل إبراهيم فى النار بإرادته وأنجاه بقدرته؟ (قلنا يا نار كونى برداً وسلاماً على إبراهيم)  [6]، ألم يقع إبراهيم فى النار وأنجاه الله منها؟ وهكذا أزال بإجابته الشبهة ببيان إسناد الإرادة والقدرة والقدرة لله تعالى يفعل ما يشاء.


[1]     كتاب الشيخ زاهر الزغبى.

[2]    شارع بور سعيد حالياً.

[3]    استأجرها الإمام فى أول ربيع الأول 1335هـ الموافق 1/1/1917 م، واشتراها فى 30شوال 1343هـ الموافق 23/5/1925م من وزارة الأوقاف.

[4]     روى هذه القصه الشيخ نصر احمد سعد العقاد من الفيوم سماعاً من والده

[5]     سورة النساء آية 63.

[6]    سورة ص آية 58