شارك المقالة:

 لعل أهم ما عاصره الإمام من أحداث سياسية فى عصره هو الاحتلال البريطاني لمصر والسودان، فكم كان الألم يعتصره بشدة لهذه الأحداث، وكان دوره فعال وإيجابي في محاربة الاستعمار ومقاومة الفساد، وعمل على نهضة الصحافة دينياَ وسياسياَ واجتماعياَ إلى غير ذلك مما كان يقوم به من أعمال لخدمة دينه ومجتمعه لا سبيل إلى حصرها.

لقد استشرى الفساد فى مصر فى عهد الخديوي إسماعيل، وما أن تولى الخديوي توفيق الحكم (1879-1892م) حتى كان الأمل نحو حكم أفضل استبشر به الجميع، ولكن الأمر لم يختلف عن سابقه ، بل إن الخديوي توفيق كان حريصاَ على الاستئثار بالحكم والسلطة ، بالإضافة إلى أنه لم يستطيع تحمل مسئولية إنقاذ البلاد مما أصابها من ضعف سياسي واقتصادي .

ظل أبناء الشعب يفكرون فى طريقة حاسمة ترد إليهم حقوقهم المغتصبة وحرياتهم المفقودة ، فقامت الثورة العرابية سنة 1881م بزعامة أحمد عرابي، وقد التف حوله كثير من أبناء الشعب المخلصين ، فالثورة العرابية هى أولى الثورات الوطنية التى عاصرها الإمام ، صحيح أنه كان صبياَ في سن الثانية عشرة من عمره، إلا أن مستوى فكره كان يسبق سنه بكثير وكل من حوله والعارفين به عن قرب قد شهدوا له بذلك ، وقد كان رأى الإمام أن الثورة العرابية فرقت الشعب المصري لصالح الإنجليز مما أدى إلى احتلالهم لمصر 1882م بعد معركة التل الكبير .

وقد انصهرت أحاسيس المام مع أحاسيس الشعب المصري معاناة من الاستعمار البريطاني ، لما يلاقيه الشعب المصري من إذلال و هوان .

وفى عام 1906 (1324هـ) أصدر الحاكم الإنجليزى لمصر وهو اللورد (( كرومر)) أمره الرهيب بشنق عدد من الفلاحين الذين قاموا بعض الجنود البريطانيين فى قرية دنشواى وقد تحدى اللورد كرومر مشاعر الشعب الوطنية ، ولم يهنأ له بال حتى نفذ أحكام الإعدام فيهم شنقآ ، حتى أصبح مجرد سماع ذكر اسمه يثير شعورآ بالسخط والاشمئزاز ، لارتباطه بمفاسد وظلم وجرائم توّجها بحادثة دنشواى .

وكان لمصطفى كامل دور كبير فى فضح أساليب بريطانيا و كرومر فى الصحف، وفى نفس الوقت كان الإمام رضوان الله عليه على اتصال دائم بالزعيم رغم وجود الإمام فى السودان، وكذلك محمد بك فريد وعبد العزيز جاويش، لا ليطمئن على الأحوال وسير الأحداث ولكن ليساهم بالرأى والمشورة فى اتخاذ القرار، وكان للإمام نصيب وافر فى كشف وفضح أفعال الهلباوى الذى وقف موقف المدعى من هؤلاء الفلاحين الشرفاء لإصدار قرار الإعدام شنقاَ .

إن حادث دنشواى كان النهاية لحكم الطاغية كرومر ، وكان الإمام يدعو الله كثيراَ أن ينتقم من هذا الطاغية ، ولما ازداد جبروته التجأ الإمام بكله إلى ربه طالباَ غارة الله لتخلص مصر منه ، ثم أملى قصيدة وطلب إرسالها إليه ، وقد تحققت دعوة الإمام رضوان الله عليه وفضح كرومر عميد الطغيان وأقصى عن مصر وذهب إلى غير رجعة .. وهذه أبيات الرسالة التى توجه بها الإمام إلى المولى عز وجل فى عام 1324هـ (1906م):

إليكم  أمرى  أيا  مولاى أرفعه

والعبد  يسأل  بالإخلاص مولاه

أنت الغيور على الفقراء تنصرهم

ومن  أتى  ضارعاَ  لله  أغنـاه

يا سيدى  غارة من سوط نقمتكم 

 على من يرد ذلهم والناصر الله

طغى علينا  بما  قد نال من نعم

 من زينة العرض الفانى ومبناه

وليس  للفقرا  غوث  يغيثهـم

إذا رموا غير قولى : حسبى الله

يا غارة  الله  إن الظالمين طغوا

بغيا  علينا  وكيد  القوم  نخشاه

فأسرعى  فى  دمارهمو بكارثة

ترمى عميدهمو [2]  فألبغى أعماه

وكان لابد من خلاص .. فجاءت ثورة 1919 ، ولسنا هنا بصدد الحديث عن هذه الثورة بملابساتها وأحداثها السياسية ونتائجها ، فقد سرد التاريخ عنها ما يكفى .

لكننا نتناول ثلاث نقاط محددة هى :

1- كيف بدأت الفكرة وكيف أخذت دورها فى التنفيذ .

2- دور الإمام رضوان الله عليه فى النصح والإرشاد والتوجيه شعباَ وحكومة وقادة ، سواء دينياَ أو سياسياَ أو اجتماعياَ .

3- دور الإمام عندما أراد المستعمر أن يقصم ظهر الأمة والإسلام ويجعلها شيعاَ وأحزاباَ – وهو أسلوبه الدائم فى مثل هذه الظروف – حتى تكونت الأحزاب السياسية فى مصر لتزداد الأمة تفرقاَ وتطاحناَ وكراهية ونفوراَ فيما بينها .

وسنعرض على القارئ هنا بعضاَ من المقالات التى أتيح لنا العثور عليها من الصحف ومن المجلات المشهورة وقت ذاك ، وخطاباته إلى حكام وزعماء الأمة وزعماء ورجال الأحزاب ، وهى ترجمة حقيقية لما كانت عليه أوضاع الأمة حكاماَ ومحكومين ، ويتضح منها أيضاَ منهاج الإمام فى معالجة الأمور ، فهى مهمة رجل الدين الحقيقى الذى لا يخشى فى الله لومة لائم .

كانت الصفة البارزة للمقالات بالصحف والمجلات فى ذلك الوقت تعف الأعين عن قراءتها ، وفيها من المهاترات ونهش الأعراض ما يجد رواجاَ وإقبالاَ من السواد الأعظم من الشعب المصرى ، وخصوصاَ بعد أن تغلغلت تلك الحزبية البغيضة فيه ، حتى كان للأسرة الواحدة اتجاهات حزبية متعددة ينابذ لها بعضهم بعضاَ .

وكان الإمام يلتقى بالمفكرين والأدباء والزعماء السياسيين ومن بينهم سعد زغلول ، حيث دار الحديث بينهما يوماَ عن تلك الأوضاع المتردية التى تعيشها مصر فى ظل الاحتلال والقصر والحكومة ، وسأل الإمام سعداَ فقال :

= يا سعد بكم تشترى العبد اليوم ؟

-يا مولانا لا يوجد عبيد تباع فى أيامنا هذه .

= لو افترضنا يا سعد أن العبيد تشترى فى أيامنا هذه .. فبكم تشترى العبد ؟

-يا مولانا إن ثمنه لا يقدر بمال .

= وهنا يقول الإمام : يا سعد .. إن العبد كما قلت لا يقدر اليوم بمال ، فما بالك إذا كان حراَ ؟ يا سعد .. اتق الله فى اثنى عشر مليوناَ من المصريين الأحرار  [3] ، إنهم أمانة فى عنقك يسألك الله عنها يوم القيامة .

*ثم قال : يا سعد .. إن أمامك غربة قصيرة .. بعدها تكون زعيماَ لهذه الأمة  [4] ، ثم تركه وانصرف ، بعد أن حثه ليبدأ المسيرة ، وبعد أن بشره بما سيئول إليه حاله مع الأمة .

وتعددت لقاءات سعد ورجاله مع الإمام بعد ذلك مرات ومرات ، ولم يكونوا أيضاَ بغرباء عنه ، فقد كانت تربطهم به الصلة أيام الشباب ، وكم دار الحديث بينهم وبينه ، وكان الرجال يجتمعون مع الإمام بعيداَ عن الأضواء ، ثم نقلوا اجتماعاتهم فى النادى الذى عرف فيما بعد باسم (( النادى السعدى )) ، كان من بينهم محمد محمود باشا ، وعبد العزيز باشا فهمى، وإسماعيل باشا صدقى ، وعلى باشا ماهر ، ومحمود فهمى النقراشى باشا ، والغرابلى باشا وغيرهم من رجالات 1919 ، وكان عدلى باشا يكن فى فرنسا فأرسل سعد مندوبين عنه لملاقاته والاتفاق معه .

وكان الإمام شديد التضرع إلى الله أن يبارك هذه الخطوة .

وأثناء لقاء لهذه المجموعة فى النادى ، وبعد أن تعاهدوا على خطتهم وأثناء مرورهم من الردهة للخارج ، وضع محمد محمود باشا عصاه بحيث لا يمر أحد وقال : لن نغادر هذا المكان إلا إذا تعاهدنا بصدق على تنفيذ ما اتفقنا عليه ، فتعاهد الجميع ثم انصرفوا .

ولما ذهب سعد زغلول وصحبه إلى دار الحماية عقب مؤتمر الصلح فى باريس عام 1918 ليطالبوا بحقوق شعب مصر فى الحرية والاستقلال وطالبهم المندوب السامى بإبراز ما يثبت توكيلهم عن الأمة ، عاد على باشا شعراوى وحمد باشا الباسل إلى مصر وطلبوا من الإمام أن يجمع لهم توقيعات أحبابة ومريدية ، فاستمهلهم أسبوعاَ ليكون عندهم عشرات الآلوف من العرائض الموقع عليها من المواطنين بعناوينهم.

وفى مقالة من مقالاتة رضوان الله عليه التى أراد بها أن يكشف النقاب تماَما عن الدور

الذى تقوم به بريطانيا، نختار هذة المقالة المنشورة فى جريدة الأخبار  [5]:                

الإنجليز ينازعون الربوبية  [6]

لكل حق حقيقة ، وحق لا حقيقة له باطل،

ما حقيقة حق الإنجليز فى مصر ؟

      << اعجب معى أيها القارىء !! الإنجليز يحررون الرقيق السود ويستعبدون الإنسان الأبيض ، هل هذا حق له حقيقة ؟ الإنجليز يغرون الأمم بالخروج على  حكوماتهم ويدخلون بين الهيئتين بصفتهم رجال الإصلاح كما نشروا أيام أثاروا العداوة بين الجيش والخديوى الأسبق وحشدوا جيوشهم وأساطيلهم لتأييد الخديوى وإصلاح الأمة ، وما يعلم إلا الله ما كانوا يضمرون من السوء لأمة وادى النيل من منابعه إلى مصابه .

الإنجليز أثاروا ثائرة السودان على إخوانهم فى الدين والوطن << المصريين >> ، ثم فصلوا السودان عن مصر وجعلوا السودان للسودان فى أيام غردون ومحمد أحمد ، فكانت ثائرة الفتنة مستعرة من الإنجليز فى زمن واحد فى مصر والسودان وهم الذين طالبوا الحكومة المصرية أخاَ له سودانياَ يناديه : << أسألك بالدين والوطن >> ، وكم قتل سودانياَ أخاه المصرى وهو يصيح بأعلى صوته : << بحق الدين والوطن >> . ولكن الإنجليز يسعرون نار العداوة بما لديهم من قوة وبطش وخديعة .

لم تكن مصر والسودان خالية من عقلاء المفكرين الذين علموا آثار القوم فى الهند والنوير وكندا واستراليا ، ولكن كيد الإنجليز أعمى بصائر المغرورين بأمانيهم ، لم تنس مصر والسودان لذة الحرية والاستقلال والمساواة على أرض هى تراث آبائهم الكرام ، ونهر هو أبوهم وأمهم من قديم الزمان ، ولكن قاتل الله أهل الأطماع وقبح الله أهل النفوس الدنيئة الذين صوروا أمة الإنجلز لأمة وادى النيل بصورة المصلحين ، وقد كنت طالباَ بالأزهر فى هذا الزمن ، فكنت لا أرى جريدة فى مصر إلا وعنوانات مقالاتها << مصر للمصريين والإنجليز رجال الإصلاح >> ولا يزال من هؤلاء الدعاة رجال أحياء يرزقون ، ومنهم من يضرب على هذا الوتر غير هياب من غضب الأمة أو رضاها .

وإلى هنا أسأل النائب عن الإنجليز فى مصر : ما هو الحق الشرعى الذى لك سلبته الأمة المصرية حتى تنذرها بتلك الإنذارات التهديدية ؟ الجواب : لا حق لك . وإذا كان لا حق لك شرعاَ ، فما السبب الذى جعلك تنذر وتهدد قوماَ سلبت حقوقهم واغتصبت حريتهم ؟ مع الأن الخلاق العظيم الملك المقتدر يأمر موسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون قائلاَ :

( فقولا له قولاَ ليناَ لعله يتذكر أو يخشى )  [7] ، وإذا كان ولابد أن تبطش بقوة دولتك وحولها ، فأعلن حرباَ إنجليزية على مصر ، وارم بمطاراتك بيوت الحكومة واهدم بها كل بيوت الأمة جمعاء . واجعل مصر استراليا الثانية ، وأرح المجتمع المصرى من هذا العناء .

المصريون يا عميد الإنجليز فى بلادهم آمنون لم  تمد أيديهم إلى ما يملكه الإنجليز ، المصريون لم يحاربوكم فى بلادكم بل ولا فى مستعمراتكم ، فما الداعى لهذا الإنذار والتهديد ؟ أهل طلب مصرى منك المعونة ، أو التجأ أجنبى من ظلم المصريين ؟ أم أن مصر من صحارى وسط أفريقيا كالنوير وغيره ؟.

صارحونا .. هل أمركم المسيح أن تبيدوا المصريين أو تدمروا بلادهم ؟ أنا أصارحكم : كل مصري – لا فرق بين المسلم والنصراني واليهودي – يأبى أن يكون مستعبداَ فى وطنه العزيز من المصريين ، فكيف يرضى أن يكون مستعبداَ للقوة القاهرة فى يد من لا يراعون عهداَ ولا ينشرون عدلاَ ولا يحفظون وداَ ولا يساوون بأنفسهم أمة ذات قوة ومجد باذخ؟.

يا عميد الإنجليز : القلوب لا تملك وإن ملكت الأجسام ، والنفوس التى فى المصريين لا تقهر وإن قهرت الأبدان ، فاحذر غائلة تلك الشدة فى الباطل ، واجمعوا القلوب والنفوس بالعدل والمساواة ، فأنتم المحتاجون إلى مصر ، والمصريون أغنياء عنكم ، فتداركوا الأمر قبل فواته فقد كاد البركان أن ينفجر ويتحقق المثل << المشادة تقطع الحبل >> .

ويا فلذات أكبادنا << النشء >> : أنتم أمة الغد ، والأعداء تعمل لقتلكم فى المستقبل بمدى يضعونها فى أيدى صنائعهم ممن يقولون : اغننا اليوم وأفقرنا غداَ ، وإن يقظتكم قد هزت قلوب جميع المسلمين ، والمظاهرة يا أبنائى وإن دلت على أنكم محافظون على ثغور الوطن من أن يدخل عدو على أعناق من يخافون من القوة الغاشمة ويطمعون فيما يمنونهم به ، ولكننى مع استحسانى للمظاهرات السلمية أكره أن تتسلحوا بسلاح واحد ، وأدعو نفسى وإياكم إلى أن نحصن الوطن بسلاح أمضى من هذا وهو : سلاح المقاطعة التجارية والتعاونية لا الإضراب عن تحصيل ما ينفعنا من العلوم والتجارات والصناعات ، وهذا السلاح الماضى يمكن كل مصرى من أن يطعن العدو فى أثمن عزيز لديه حتى يشترك الوزير على مكتبه والخفير فى دركه والجندى فى ميدانه ، أما المظاهرة يا أبنائى التى يصطدم فيها المصرى بالمصرى ، ونجدد للأعداء قوة بحجة تكون أجمل إذا شعرت الحكومة بما تشعر به الأمة ولم تصادر شباب الأمة الناهض إذا أظهر شعوره ، كفانا ما أريق من الدماء فى سبيل نجاة الوطن بسبب المظاهرات التى لم يقصد بها المصرى إظهار شعوره ، وبهذا يرجع إليكم الأعداء صاغرين ، ولا تظنوا يا أبنائى أن نار الغيرة هى شرف الحرية والمساواة والعدالة التى هى فوائد الاستقلال تطفأ من قلب كل مصرى مهما حاباه الأعداء ، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم >>.

وما أن بدأت المسيرة إلا وأملى الإمام مجموعة مقالات ظهرت فى الجرائد ، يحدد فيها الواجبات على كل فرد من أفراد الأمة سواء الزعماء أو الهيئات الحاكمة أو أفراد الأمة ، وهذه إحداها قال فيها رضى الله عنه فيما يختص بأفراد الأمة:

الواجب على كل فرد من أفراد الأمة  [8]

قال عليه الصلاة والسلام : ( كل واحد من المسلمين على ثغر من ثغور الإسلام ، فإذا تهاون إخوانك فاشدد لئلا يدخل العدو من قبلك ) [9]. وهذا الحديث الشريف أوجب على كل مسلم كمال اليقظة بالشئون العامة بعد قيامه بالشئون الخاصة ، فمن شغله شأنه الخاص عن شأنه العام أنزل نفسه فى الحضيض الأسفل حضيض البهائم السائمة وخرج من الإنسانية ، فكيف يحكم على نفسه بالإسلام ؟

سوى الإسلام بين كل الأفراد ، فالحاكم على عرشه لا حق له على أحقر محكوم إلا بالحق ، وأذل محكوم لا يخاف إلا ذنبه ولا يرجو إلا ربه ، وإنما الحاكم منفذ لأحكام الشريعة ، فأعز المسلمين لديه أذلهم ما دام عليه حق ، وأذلهم لديه أعزهم ما دام الحق له ، والأمة بأفرادها لا بحكامها ، وبقدر علم الأفراد بما لهم وما عليهم تكون سعادتهم وتمكينهم فى الأرض والحق ، والأمة هى التى تنوع الأحكام ، فلو احتل أظلم الظلمة وطن أمة عالمة بحقوقها قهرته على التجمل بالعدالة والفضيلة ، وإن احتل من تحلوا بأكمل الفضائل وطن أمة جاهلية أو متفرقة أو متصفة بالرذائل صيرتهم بذلك ظلمة أشرار . فالواجب على كل فرد متفاوت بحسب حال الأمة أنه إذا تولى الأمة أهل الولاية العاملون لخيرها ، تمتع كل فرد بالخير من الأمن ، والوسعة فى الرزق ، والعافية من البلايا ، وخف الواجب على الأفراد ، وإذا احتل العدو الوطن عظمت المسئولية على كل واحد من رجال الأمة ، بحيث يتعين على كل فرد ما يناسبه من العمل ، فإذا تهاون واحد منهم فوالى المحتلين أو سارع لخير شخصى أو كاد لأخيه الوطنى ، فتح ثلمة فى حصن الأمة الحصين وثغراَ من ثغورها المنيعة يدخل منه العدو على الأمة وذلك بعمل واحد منهم .

وأمة يسعى رجل فيها لخير نفسه معتقداَ أن هذا الخير يضر الأمة ، هو خائن لوطنه يجب أن يعاقب بحرمانه من الحقوق الوطنية ولو بلغ أرقى مقام فى الهيئة ، لأن معظم النار من مستصغر الشرر ، وهنا أضرب لك مثلاَ يقرب الحقيقة :

ترى الغيور لوطنه المسارع لخلاصه من يد الغاصبين إذا لاحت له منفعة لنفسه انقلب على الوطن فكان شراَ من الغاصبين عليه ، وترى الآخر يجتمع مع غيره فى أماكن الدعارة واللهو التى يديرها الأجانب فيجعلها نادياَ للآراء فيعين الأجنبى بمال الوطن ويكاشفه بالأسرار التى يريدها ، وترى غيره يحكم هواه وحظه فينفذ عملاَ يضر الوطن بأجمعه ، ويزيد الطين بلة بعمل الإنتقام ، وترى من يتشبه بالأجانب المشهورين بالغيرة لأوطانهم فيقوم ليعمل كعملهم جاهلاَ أن دول أوروبا لديهم من الأسلحة والقوة ما به استقلوا واستعمروا واتحدوا علينا ، ونحن الآن فى حاجة إلى تكوين الأمة وإصلاح ذات بينها وبيان السبل الموصلة إلى نجاح المقصد فيضر من حيث يعتقد النفع .

فإلى كل واحد من أفراد الأمة أقدم نصيحتى : أنت أيها الأخ عضو من جسد الأمة عامل لنفسك ولها ، فالأمة فى حاجة إلى صحتك وعافيتك لتعينها ، وأنت فى حاجة إلى الأمة القوية المنيعة لتنال بها العزة ، فالواجب عليك أن تقدم خير الأمة على خيرك الخاص ، وألا تقدم على عمل من أعمال العامة إلا بعد أخذ رأى أهل المشورة والحكمة والتجارب ليكون عملك منتجاَ للخير العام والخاص ، إذ ليس الشجاع من قهر أقرانه ، إنما الشجاع من قهر نفسه لتكون نفساَ فاضلة عاملة للخير ، وليس الوطنى من دفعته غيرته فعمل على ما يضر الأمة ويمكن الأعداء ، وإنما الوطنى من عمل الخير لأمته ودفع شر الأعداء بالحكمة .

وخير وسيلة لنيل الخير أن يثق كل فرد من الأمة بنفسه معتقداَ أنه جندى من جنود الوطن ، فيضع نفسه حيث يكون الخير للأمة ، فإن كان من أهل الشورى فمعهم ، وإن كان من أهل التنفيذ فمعهم ، وإن كان من العمال الذين يجب عليهم ملازمة أعمالهم الضرورية للأمة لزم أعماله من زراعة أو صناعة أو حرفة أو تجارة . والفساد إنما يحصل بقيام كل واحد بعمل ما لا يحسن وترك ما لابد منه .

وأهم ما يجب علينا الآن عمله : تكوين الأمة حتى تكون جسداَ واحداَ ، ويكون كل فرد منها ككل عضو فى الجسد ، وبذلك تقهر أعداءها ولو اجتمع عليها كل من بأقطار الأرض ، وأمة لم تعلمها الضرورة فلتتبوأ مقعدها من الذل ، ومتى سعت الأمة إلى إصلاح ذات البين وعلم كل واحد منها ما يجب عله فعمله ، رقت وعزت .

وقد بينت بياناَ للزعماء ، وللأمة جمعاء ، وللهيئة الحاكمة .. وهذا بيان للأفراد ، ومتى صلح الأفراد صلح المجتمع ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاَ >> .

وكان الكثير يسأل الإمام قائلاَ : سل ربك أن ينجينا فى قضيتنا لننال الاستقلال التام متمتعين فى ظل الحرية والإرادة ، فكان الإمام يقول لهم : يقول الله تعالى :( ومن يتق الله يجعل له مخرجاَ ويرزقه من حيث لا يحتسب ) [10] وكان يقول لهم : اتقوا الله يا أبنائى وارجعوا إليه فإن الله تعالى يقول : ( وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ) [11] ؟

إن القضية بالنسبة للإمام هى قضية التقوى ، وعلى قدر ما يكتسبه من تقوى على قدر ما يكشف الله به الغمة عن الأمة ، وها هى بعض النصائح الدينية التى تبين لنا حقيقة الدور الذى قام به فى وعظ الأمة وإرشادها .

حصنوا المجتمع بالفضائل الدينية  [12]

<< معلوم أن الحرب قائمة بين الحق والباطل من لدن خلق آدم . حارب إبليس آدم فى الجنة حتى أهبطه الله منها ، وقد وهب سبحانه وتعالى للإنسان عقلاَ يعقل ، وجعل له حداَ محدوداَ لا يتعداه ، وركب فى الإنسان من القوة الباعثة على الشرور الداعية للمفاسد ما لو ترك الإنسان وشأنه لألقته فى الدرك الأسفل من النار فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فيما يصيبه من الآلام والبلايا بسبب الحسد والطمع والحرص ، وأما فى الآخرة فبالعذاب الذى يستحقه للدين واتباعه لهواه .

والحكمة فى أن الله خلق للإنسان العقل أنه سبحانه أهله للسعادتين ، فالعقل يعقل بدائع إبداع صنع الله فى هذا الكون الجلى ، فإذا جاهد الإنسان النفوس بالعقل حتى صارت وسطاَ متبعة للدين فاز بالسعادتين ونال الخيرين ، وإذا أهمل العقل وانقاد لحظوظ النفس باء بالعناء فى الدنيا والعذاب فى الآخرة ، وكلنا نعلم أن الأمم قبل الإسلام كانت بين جاهلية عمياء أو أمم فاسقة أو أمم بدلت الفضائل بالرذائل وهى المبدلة .

حتى ظهر الإسلام فعم السلام ، حفظت الدماء إلا دم أهرقه الشرع والعقل ، حفظت الأعراض غيرة للشرع وحفظاَ للشرف وخوفاَ من فضيحة الدنيا وعذاب الآخرة ، حفظت الأموال من أن تتطاول إليها الأيدى الأثيمة فيقطعها الشرع ، حفظت العافية من سلبها بالخمور والحشيش والأفيون خوفاَ من سلب الحياة بالحدود الشرعية ، سجنت النفوس الظلومة فى الأجسام خوفاَ من سطوة الشرع وانتقامه برجال الغيرة المنفذين له .

عاشت الأمم فى ظل الإسلام فى سلام من سفك الدماء وسلب الأموال وهتك الأعراض ومن امتياز بعض الناس على بعض ، لا فرق بين المسلم وأهل ذمة الله ورسوله فى هذا الخير العام ، حتى أغضب المسلمون ربهم وخالفوا وصايا النبى صلى الله عليه وسلم ، وترك العلماء والوعاظ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حتى عم الخطب وصار العالم يقف على أبواب الأمراء والحكام ملتمساَ زيادة مرتبه أو مضرة نظيره أو الظهور فى الدنيا ، وصار الواعظ يتخذ الوعظ سبيلاَ لجمع حطام الدنيا وللشهرة فيها ، مرض العلماء والوعاظ فصاروا أضر على الأمة من حمقاها ، وليس العلم ما به الوجاهة ورفعة المنزلة بين الناس ، إنما العلم ما به الخشية من الله والغيرة لدينه والمسارعة إلى محاب الله ومراضيه .

عجز العقل عن وضع الأنظمة التى يعيش بها العالم فى سلام وأمان فى الدنيا ويفوز بالمسرات الباقية يوم القيامة ، وتحقق أنه لا يكون إلا بدين سماوى يأتينا به رسول من عند الله تعالى يقبله العقل ويرضاه يخرج الإنسان من الأخلاق الإبليسية والشهوات البهيمية والأطماع الإنسانية حتى يكون المجتمع كالجسد الواحد يعمل كل فرد للمجتمع ويعمل المجتمع لكل فرد ، ولا يكون هذا الخير إلا بوازع دينى يقهر القلوب خوفاَ من علام الغيوب ، ويقهر الأجسام بتنفيذ الحدود فى جلد وقتل ليستريح العالم من الظلم والتظالم والبغى ، وقد جمع الإسلام من الآيات التى خشعت لها القلوب وزكت بها النفوس ، ومن الأحكام ما علت بها الأجسام وضعفت الأوهام .

ولا سبيل إلى السلام والسعادة إلا بالرجوع لأحكام الإسلام ، فقد أنتج إهمال إقامة حدود الله ظهور الفساد فى البر والبحر ، فأصبح المجتمع الإنسانى كمجتمع وحوش فى غابة تعيش فيها الحيوانات ضعيفة ، فكيف تكون حالة تلك الحيوانات مع الوحوش الكاسرة ؟!! لا شك أنها ستكون شراَ من مجتمعات الجاهلية ، لأن الإنسان فى الجاهلية كان محافظاَ على بعض الفضائل كالكرم والنجدة والإغاثة وحفظ الجوار ، وكان لتلك الفضائل رجال حمس .

وأصبح الناس وقد تركوا دينهم فتقهقروا إلى ذل الجهل وخزى الإباحة ، وابتلوا بالحسد ونسيان يوم القيامة ، فألفوا ما ينفر منه الحيوانات من فعل المنكر فانتشر الزنا بينهم علناَ وهو أرذل الرذائل فاعتادوا عليه ، وانتشر الخمر وهو أفسد المفاسد فسارعوا إليه ، وجعلوا الحانات وبيوت العهارة أندية للسمر ومجالس يفتخر بها من خسر الدين والدنيا ، تركوا الدين فوكلهم الله إلى أنفسهم فصاروا عبيداَ لمن كانوا لهم تبعاَ ، سلب منهم المجد فرضوا بالخزى ، وسلبت السيادة فرضوا بالذل ، ثم سلب المال فوقفوا على أبواب من كانوا يقفون على أبوابهم.

أين هذا المجد أيام تمسكنا بديننا ؟ وأين هذا الشرف والعز أيام عملنا بسنة نبينا ؟ أين تلك الغيرة على الأعراض أيام كانت الأمم تضرب بنا الأمثال ؟ كيف يرضى المسلم أن يرى بيوت العهارة وفيها الفتيات المسلمات يدخل عليهن من يعلمهن وفيهن قريبته لأمه أو لأبيه أو لدينه ؟

لنفرض أن الحكومة جعلت عليها حرساَ ورخصت لهن فى هذا العمل ، فهل الحكومة أوجبت على المسلم أن يدنس دينه وعرضه وشرفه ويرجع بالجذام رغم أنفه ؟ الإنسان له بصيرة على نفسه ، فالحكومة رخصت للباغية والقرآن حرم الزنا ، ورخصت لأصحاب الحانات والشريعة حرمت الخمر ، وجعلت حرساَ على بيوت الزنا والحانات ، فهل تطيع الحكومة وتخالف دينك ؟ يغضب النبى صلى الله عليه وسلم ، ويقتل نفسه بالزهرى والسيلان والسموم التى يتناولها وينشر أرذل الرذائل بعمله فى أقاربه ، لأن الفتيات إذا خدعهن الغربى وجيوشه فمن الذى خدعك أيها الشاب المسلم وخصوصاَ المتربى ؟!! وأنت تعلم شرور هذا العمل أيها المخالف لدينك .

أما تتقى الله وتحفظ صحتك وتحصن شرفك بين قومك وتدفع المصائب عن أمتك وتغار لأقاربك ، أما الفضائل فهجرتها ، وأما الرذائل فعملتها وأيديها ، وقد آن لك أن تنظر بعين البصيرة إلى مستقبلك ، فإن دوام الفجور يؤدى بالإنسان إلى الهوان والخزى فى الدنيا والعذاب فى الآخرة ، وقد قامت الحجة على تلك الحقيقة وظهرت لك الحجة التى بسيرك عليها تفوز بالخيرين وتسعد فى الدارين ، فارحم نفسك وارجع إلى العمل بالدين ولا تنظر إلى أوربا التى تركت الدين ، فإنهم تركوا دينهم وعملوا بحظهم فى الدنيا فظفروا بالعاجلة .

وما تركوا دينهم إلا لأن العقول أنكرته ، والمسلمون قلدوا أوربا فى ترك الدين والعمل بأحكامه من غير بصيرة ، فتركوا الحق الجلى الذى سجدت له العقول وبه مكن الله لنا فى الأرض ، فذلوا واستعبدهم العدو ، ودين يتركه أهله فذلوا للأعداء حق عليهم بل يجب عليهم الرجوع إليه .

الصلاة طهارة ورياضة وعبادة ، والصيام تزكية للنفوس وطهرة للأخلاق وصحة للأبدان وتشبه بالأطهار من عمار السماوات وعبادة لله ، والزكاة رحمة بالفقراء وتبرئة من البخل وجمع للقلوب على مساعدتك – ولو بالدعاء – وحصون حفظ مالك ودمك وعرضك من الآفات وعبادة لله ، والعقيدة التى هى توحيد الله وتنزيهه عن النظير والند والوالد والولد تكسبك عزاَ ومجداَ ومسرة فى الدنيا والآخرة وعلواَ حتى لا ترى فوقك إلا ربك ، وترى العالم أجمع عبيداَ مخلوقين لا فضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى .

ارجع للعمل بدينك أيها المسلم تفز بما فاز به سلفك الصالح من التمكين فى الأرض بالحق ، ومن العزة بالحق ، ومن الحياة الطيبة فى سلام وأمان ونعمة وإحسان .. والله ولينا جميعاَ >>.

الدين النصيحة  [13]

إلى الأمة المصرية الكريمة وزعمائها

<< الحق واحد ولكنه خفى على من غلبه الحظ ، فإن العقل والشهوة ضدان ، فقد تتغلب الشهوة على العقل فتجعل الباطل حقاَ والحق باطلاَ ، حتى يكون العامل يضر نفسه وأمته وهو يعتقد أنه ينفع .

وللأمة حق وللزعماء حق

1-أن يستمدوا منها القوة ، وأمة تمنح قوتها للزعماء يعملون ما يشاءون من غير مشورتها وإرادتها أمة لا يعبأ بها ولا تنال مقصدها .

2- أن تراقب أعمالهم فيما يتعلق بقضيتها ، فلا تمنح ثقتها فى كل عمل إلا بعد أن يتبين لها أن الزعماء يعملون لخيرها بأسلوب منتج للخير المطلوب مع الشجاعة التى تجعلهم يؤثرون الأمة على أنفسهم .

3- الضرب على أيدى المفسدين الساعين فى التفرقة مهما كانت منزلتهم أدباَ لهم وإنذاراَ لغيرهم من أمثالهم .

*وللزعماء حق على الأمة وهو :

1- تشجيعهم بالقول والعمل إذا أخلصوا للأمة .

2- تنفيذ آرائهم إذا كانت لصالح الوطن .

3- دفع كل معتد عليهم مهما كانت منزلته .

4- ستر عوراتهم التى ليسوا معصومين عن الوقوع فيها لأنهم ليسوا أنبياء .

5- المسارعة إلى نصيحتهم بأسلوب الحكيم .

6- مصادرة كل من يشيع عنهم ما ينفرهم .

       وهنا يجب البيان كل البيان : كلنا نعلم أننا إنما وثقنا بالزعماء لننال الخير لأنفسنا ولهم ، فإذا آثر الزعماء أنفسهم علينا وجب علينا أن نسلب الثقة منهم ونقوم للعمل لأنفسنا بأنفسنا ، فإن الأمة إذا اجتمعت قهرت كل عدو ولو اجتمع عليها من أقطارها .

       وخير الزعماء من كان أول عمله إصلاح ذات البين ، وإعطاء كل ذى حق حقه حتى تكون الأمة كالجسد الواحد يحيط بالقلب ، والعقل هو صاحب العرش ، والأمة جمعاء هى أعضاء الجسد كل فرد منها ككل عضو من الجسد ، ولا تنال الأمة هذا المقام الذى يجعلها مهيبة عند أعدائها إلا بالتمسك بالدين والعمل به ليكون سلطان الدين قوياَ على القلوب يدفعها إلى الخير ، ومتى اجتمعت قوة الدين على القلوب وعلى الأجسام ظفرت الأمة بالخير العاجل وبالسعادة فى جوار الأطهار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .. والله ولى المؤمنين >>.

وقد جاء فى خطاب أرسله الإمام رضى الله عنه إلى سعد زغلول يناصره ويشحذ من همته وينفث فيه روح الإيمان طالباَ منه أن يلم شمل الأمة ويجمع كلمتها :

<< تعلم أيها المجاهد الكبير أن قدر الرجال بنتائج أعمالهم لا بآمالهم ، وبقدر تأثير النفوس لتزكو وتتعاون على الخير لا بقدر ما ينالون من العلو والحظ ، إنك يا أخى قد أظهرك الله فى وقت اقتضت أحداثه أن يكون كل مصرى جندياَ يمد يده إلى قائد قوى الإيمان يأتى بما يستوحش منه أهل الأهواء ، صغرت فى عينه المناصب وإن جلت ، واحتقر الحمد على من لم ينل ، وإنا لنعلم منك الإقبال فى وقت الفزع والتمسك بمعالى الأمور والغيرة للحق ، ونعلم أن الأمة تحققت ذلك عن يقين ، وإنك يا دولة الرئيس تعتقد أن كل مصرى حريص أن يعيش حراَ مستقلاَ وقد ضحى فى سبيل ذلك بالنفس والمال والولد ، وإنما هى الأخلاق تجمع إن أحسنت وتفرق إذا ساءت ، وقد قال تعالى : ( ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم ) [14].

  وإنى أشكر الله على ما أغاثنا به فى هذا الوقت الحرج من الصفاء بعد الجفاء والتناصر بعد التخاذل ، وأشكركم يا دولة الرئيس على الحجة التى أقمتموها لأنفسكم بالمسارعة إلى ما به صحة الجسد المصرى ، وأرجوكم بعد أن ظهرت لكم نتيجة جمع كلمة الأمة أن تداووا بقية أعضاء هذا الجسد المبارك حتى تعم المسرة كل بيت بوادى النيل ، بل يسرى السرور إلى كل أمة إسلامية وشرقية ، ويسرى إلى سلفنا الصالح فى روضاته كى ننال بهذا العمل المبرور رضوان بنا جل جلاله وسعادتنا فى هذا الزمن وخيرات أبنائنا من بعدنا فى المستقبل ، والأمر سهل على رجل عظيم مثلك وجه وجهه لإنقاذ وطنه وأمته من وحلة الاستعباد وظلمة الاستبداد .. والله داعياَ أن يطيل عمرك عاملاَ للخير داعياَ إليه >>.

الحالة الحزبية فى مصر

 انتهت ثورة 1919م ، وأفرجت بريطانيا عن سعد وصحبه ، وأصدرت تصريح فبراير 1922م تمنح به مصر استقلالها الذاتى مع تحفظات أربعة ، وإقامة حكم نيابى ديمقراطى ومنح الملك شعبه دستور 1923م . وأسرع السياسيون إلى إنشاء أحزاب سياسية كانت نكبة سياسية على البلاد حيث فتنت وحدتها وبددت كلمتها بعد اتحادا فى 1919م ووزعتها طوائف متنافرة مختلفة فيما بينها ، متفقة على إرضاء المستعمرين ولو على حساب الشعب ومصيره ومقدراته ، وظلت الأحزاب تتطاحن وتتناطح وتتنافر لمصلحة الاحتلال ، وسعدت بريطانيا بهذا وتركتهم بعضهم يموج فى بعض ، وتجاوزت الخصومات الحد فى التطاول على الأعراض والحرمات .

وهذه مقالة تبين مدى انفعاله رضى الله عنه مع أحداث الوقت ، وفيها ينصح الأمة بالإدلاء بأصواتهم لمن يستحق تمثيلهم :

انتخبوا أهل الغيرة والحكمة  [15]

<< الأمة محتلة بالأعداء يفعلون بها ما يشاءون ، والنفوس مجبولة على التأثر بالخوف والرجاء ، والأعداء بيدهم كل شئ يطمعون ولا يخافون لأنهم تمكنوا من تفرقة الأمة حتى صار بعضها يحارب بعضاَ شأن من يجهل مقتضى الوقت .

الأعداء يعلمون أن الأمة ليس بيد أفرادها أسلحة ، وليس لها إلا القوة المعنوية وهى اتحاد الأمة على العمل لنيل استقلالها وإجلاء عدوها ، ولو علم الإنجليز أن الأمة تتحد ما منحتها الحرية فى الانتخاب وتشكيل مجلس الشورى ، ولكن اليد التى منحت عملت عملاَ جعلت تلك المنحة شراَ على الأمة .

وقد آن للأمة ، وأخاطب الهيئة المحكومة ، أن تعمل لنفسها بنفسها عمل من يأمل الحياة فى أمن وعافية ووسعة فى الرزق وكفاها تجارب ، قلت كثيراَ إن الحكومة   الآن  كالبرزخ  بين الأمة وأعدائها ، لا يمكنها أن تقف الشدة أمام عدو قوى عززته الأساطيل والجيوش ، فنزعت الرحمة من قلبه ، لا يرحم إنساناَ ولا يرضى إلا باستعباد غيره ، فالحكومة إن تمسكت بمداراة الأعداء فذلك لعلمها بواجب الوقت ، ولكن الأمة هى وحدها هى التى يمكنها أن توقف الأعداء عند حدهم بانتخابها أهل الغيرة والحكمة الدين يمثلونها وتكون من ورائهم منفذة لآرائهم لما عملته منهم من إيثارها على أنفسهم ومن التفانى فى نيلها الخير .

ونحن الآن فى غنى عن غيور لا حكمة عنده ، وعن حكيم لا غيرة له ، والطبيب إذا جرب دواء فلم يعد بالعافية عدل عنه إلى غيره ، والواجب علينا أن نخلص فى العمل ونترك العواطف وراء ظهورنا وننظر بعين ملؤها الحذر ، فلا نضع ثقتنا إلا فيمن تقوم له الحجة على أنه الرجل الحكيم الغيور الذى يرد الأعداء بحكمته ويقهرهم بغيرته ، فلا يجبن فى وقت الشجاعة ولا يشدد فى وقت اللين ، وفى مثل تلك الظروف يجب أن نقف عند الحق لأننا فى ميدان جهاد بالرأى ، وكم من موثوق به خارت عزيمته فى مثل هذا الميدان ، وإنما مجلس الشورى رجال قليلون بالنسبة للأمة ، فإذا انتخبنا بالعواطف وسعى كل فرد لنفعه الخاص كان ما لا تحبه الأمة .

أنا لا أشك أن الحكومة ضيقت دائرة الانتخاب بتقدير المائة والخمسين جنيهاَ ، وحرمت الأمة من كثير من أهل الرأى والسداد والحكمة والغيرة ، إلا أن الأمة يمكنها أن تتحرى انتخاب أهل الإخلاص والتقوى الذين إن لم يمنعهم عن الدنيا نسبهم يمنعهم التقى والخشية من الله تعالى والحرص على خير الأمة ، يجب على الناخب أن ينتخب من تطهر من حب الانتقام ، ومن الطمع فى مال غيره ، ومن التساهل بدينه ووطنه ، ولم يثبت عليه ما يشينه حتى تطمئن الأمة بنوايها ويخشاهم العدو ولا يخشونه.. والعاقبة للمتقين .

وكان سعد زغلول شديداَ جداَ فى خصومته الحزبية ، فلم يترك الإمام نصحه ، وإنما أرسل رسالة خاصة تتناول هذا المعنى يقول له فيها : 

<< .... تذكر عند زيارتى لكم أنى طلبت منك أن تعفو عمن ظلمك ، وأن تحسن إلى من أساء إليك – وكان ذلك قبل سفرك إلى سيشل ببضعة أيام – فأجبتنى قائلاَ : أنا لا أملك العقوبة فكيف أملك العفو ؟ فأخبرتك أن الله سيقدر لك ملك العقوبة والعفو ، فأجبتنى : لديها أفعل ما تحب ، وكان معك النقراشى فدعوت لكما وانصرفت .

والآن وقد أقامكم الله مقاماَ ، يجب عليكم أن تشكروا من تفضل عليكم به ، بالعفو والإحسان إلى خلقه ، خصوصاَ والشأن يهم الجميع والله تعالى يقول : ( وتعاونوا على البر والتقوى ) [16] ويقول : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) [17] .. وإنى أسأل الله أن يشرح صدركم إلى ما به الظفر بقضيتنا ، وتقبل نصيحة من رجل يحب لك الخير فى الدنيا وحسن الأحدوثة ، بعدها والنعيم المقيم يوم القيامة >>.

ثم قدم الإمام النصح والإرشاد لكل الزعماء بدءاَ من سعد زغلول فقال  [18] :

<< قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال أمتى بخير ما وقر صغيرهم كبيرهم ، ورحم كبيرهم صغيرهم ) [19] هذا الحديث هو الأصل ، الذى بالعمل به تكون الأمة كالجسد الواحد الصحيح القوى ، ومتى احتقر الصغير الكبير وظلم الكبير الصغير ، تفرقت الأمة وضعفت وتمكن منها عدوها .

فإلى رجال الحكومة : إنكم أفراد من الأمة ، وإن ما تمتعتم به من نفوذ الكلمة ومن واسع النعمة ومن الجاه والعزة ، إنما بالأمة ومنها ، فإذا عاديتم الأمة وهى مصدر هذا الخير لكم وأرهبتموها بالحديد والنار قتلتم نفوساَ أنتم فى حاجة إليها ، وأضعتهم ثقة من القلوب لا غنى لكم عنها ، وفتحتم على الأمة أبواب الشرور من الجبن والعمل على نيل السلامة منكم بالمكر والخديعة ، فيهملوا الواجب عليهم من التعليم والتجارة والصناعة والزراعة ، ويخرج بعضهم على بعض فيتفرقوا شيعاً وأحزاباَ ، وهنا تحدث الطامة الكبرى وهى : إما غضب القهار المنتقم فيسلب الحكم من أهله ، وإما تسليط العدو الغاصب على الحكومة أولاَ وبالذات ، فيصير الحكام بعد العزة أذلاء ، وبعد القوة ضعفاء ، وبعد الغنى فقراء ، وتصبح الأمة مستعبدة بعد الحرية ، مملوكة بالأعداء بعد أن كانت مالكة ، وهذا هو نتيجة محاربة الحكومة للأمة ، وليست الممالك التى انهارت والأمم التى اندرست إلا بسبب هذه المظالم .

وبعد أن خاطب العلماء ، وخاطب طلبة العلم ، والتجار ، والعمال والصناع ، خاطب رجال الأمة جميعاَ فقال :

يا رجال الأمة جميعاَ : إن تقليد أوربا فى النظم التى وصلت إليها بعد قرون طويلة قلدت فيها سلفنا الصالح رضى الله عنهم حتى نالت ما هى فيه الآن ، تقليدنا إياهم هذا فى الاختلافات الحزبية سبب الانحطاط ، لأننا فى حاجة إلى تكوين قوميتنا بالاتحاد وإلى حفظ ثروتنا بما لديها ينميها لنا من رقى الصناعة وتقدم التجارة والعناية بالزراعة حتى تكون الأمة غنية بما لديها أسباب السعادة لا تحتاج معها إلى الأجانب فى كل أمر من أمورها ، انظروا إلى ما آل إليه حالكم ، لقد أصبحتم أحزاباَ تتطاحنون مع أن القصد واحد ، وإنما الاختلاف لا سبب له إلا الطمع .

أوربا كثرت فيها الأحزاب ، ولكن لكل حزب مقصدا خاصاَ به كحزب أصحاب رءوس الأموال وحزب الصناع وحزب العمال ، ولقد قلد الأتراك أوربا ولكن بعد أن فازوا بالحرية والاستقلال وإذلال أعدائهم .

الأحزاب أحزان فى أمة تجاهد لدفع العدو الغاصب ، والتفرقة فى أمة لا قوة لها على دفع عدوها الرابض فى عقر دارها هى موت أبدى ، فليضح كل فرد من الأمة بكل رخيص وغال لنيل الخير العام ، وليحقر كل رجل ما يناله من الجاه والسلطان الذى يكون فيه ذله وذل أمته>>.

وسبق أن أشار الإمام رضوان الله عليه إلى ثورة 1919 بأبيات نظمية ترجع إلى عام 1912 م وقت أن كان بالخرطوم ، ثم تصويره لأعقابها وإشاراته إلى من يأتى ليحمل مسئولية تحرير هذا الشعب ، ليجعلنا نتمثل أنه يعيش الآ، بين ظهرانينا ليشهد تحقق مقالاته التى تعد ترجمة صادقة عن غيب مصون كما كان يقول رضى الله عنه ، وعندما دعى الإمام رضى الله عنه سعداَ وصحبه إلى الائتلاف عام 1927 ، وركز بالذات على سعد ، وتحقق ذلك فى عام 1936 بتوقيع معاهدة مع بريطانيا ، سأله الشيخ أحمد السبكى المحامى عما إذا كان هذا الائتلاف هو ما دعا إليه الإمام فى أبياته فقال : إن هذا ليس ائتلافاَ وإنما هو رضوخ لإرادة المحتل الغاصب وإذعان له وامتهان لكرامة الأمة وضياع لتضحياتها ودمائها الغالية واستسلام مهين من قادتها وزعمائها ، وإنما الائتلاف سيكون بالقضاء نهائياَ على الحزبية البغيضة واندماج الأمة فى وحدة تحقق لها أهدافها .

ومات سعد  [20] ، وظل الإمام فى نصحه وإرشاده للأمة وزعمائها :

إلى الأمة المصرية  [21]

<< قائد الجيش ، وربان السفينة ، والطبيب الاختصاصى ووصى الأيتام .. عليهم واجبات تتفاوت بقدر ما ينتج من عنايتهم أو إهمالهم ، ولكن فوق تلك المسئولية مسئولية الزعيم الذى ملك القلوب فجعلها تقتدى به اقتداء الواثق المطمئن ، فإن الزعيم يجب أن يكون قادراَ على توحيد الصفوف عند تحقق الخطر ، وأن يكون يقظاَ كل اليقظة نحو ما يصدع صفوف الأمة ويفرقها أيدى سبأ ، وتكون المسئولية أعظم أذا كانت الأمة تواجه عدوها ، وتشتد المسئولية إذا جاس العدو خلال ديارها وغمز قوة ارتباطها فطعن فى دينها ، فإنه القوة الحساسة التى تدل على حياة الأمة أو موتها ، فإذا كان العدو جاس خلال الديار وطعن فى الدين – لا أقول طعن فى الإسلام فقط بل طعن فى الإسلام فقط بل طعن فى كل دين سماوى – فهنا يجب أن يكون الزعيم كيعسوب النحل ، يحرص على جمع الكلمة ، ولم الشعث ، والمسارعة إلى إصلاح ذات البين ، لا يخرجه غضبه عن التضحية بنفسه فى سبيل حياة الأمة التى اختارته ، ولا يدفعه رضاه إلى الخنوع للعاطفة فيفسد القلوب ويجعل الأمة متفرقة .

نحن لا نشك أن كل زعيم يتمنى نيل الأمة الخير على يديه ، فيبذل ما فى وسعه لذلك . لا أقول هذا القول جزافاَ لأنى أعلم أن الزعماء الذين رفعت الأمة شأنهم بنفسها لم تكن الأمة لاعبة ولا هازلة ، ولكن البلاء كل البلاء من خصال ثلاث :

أولها : شح الزعيم بما ناله من المجد أن يضيع منه ، فيعادى من واجهه بالنصيحة ويحارب من طالبه بالقيام بما عاهد الأمة عليه .

والخصلة الثانية : إعجاب كل زعيم برأيه فيخاصم أهل الآراء المخالفة له ولو كانوا على الحق ، ويهرع معه أنصاره فيصيحون ويصخبون من غير بصيرة فى الأمر ولا عبرة بالأحداث .

والخصلة الثالثة : اتباع الهوى ، والهوى أخو العمى ، ومن اتبع هواه فى هوة الخزى أرداه ، ومن لم يضح بالمال والجاه ليدفع عن الأمة شر تمكين الأعداء كان ماله وجاهه عليه وبالاَ .

وإلى الأمة الكريمة : إنك تجاهدين ، فإذا أنالك الله الخير بجهادك كان أوفر قسط منه للزعماء ، وليس الزعماء معصومين ، أو ممن ربتهم مصر فى عهد علمى خاص بتربية الزعماء ، وإنما هم رجال ولدتهم الأحداث العظام ، والأمة ضحت فى سبيل رفعتها بقناطير من الدماء الغالية والمهج العزيزة ليجمعوا الأمة على المطالبة بحقها والعمل بإشارات أولياء أمورها العاملين للخير العام ، فإذا أخطأ رجل يجب أن تستر الأمة خطيئته محافظة منها على وحدتها حتى تتجاوز هذا الخندق الخطر ، أن أحسن رجل فيها يجب ألا تتغالى فى مدحه خوفاَ عليه من أن يدفعه الزهو إلى الوقوع فى خطأ يوقع الأمة فيما لا ترضاه بل تنتظر عليه حتى يصفى الحساب .

والعاملون المخلصون للأمة هم الذين تضمحل فى أعينهم الأموال والرتب ليجعلوا الأمة كالجسد الواحد فيكونوا كالأطباء الرحماء الذين يعالجون أمراض الأخلاق وأدواء النفوس ويحصنون الأمة بحصون الحيطة ، والتحفظ من انتشار الأمراض الممزقة لجسد الأمة كما يفعل رجال الصحة إذا علموا بانتشار مرض معد فى بلد ما . ورب زعيم يسره قهر فئة من الأمة لمخالفتهم له ، فهو كالأحمق الذى يقطع يده بيده الأخرى ، خصوصاَ أن الأمة المصرية الآن عزلاء ، وقد أصبح أمضى سلاح لها أن تكون كالبنيان يشد بعضه بعضاَ ، وبذلك ترسو سفينة الأمة على جودى السلامة .

       وعلى الأمة أن تعلم أن نصر ليس لها عدو أنكى بها من : مصرى يؤثر نفسه على مصلحتها فى وقت الفزع الأكبر ، وهؤلاء هم الذين يمكنون الأعداء منا ، فلنتدارك نحن أفراد الأمة ، فنتحفظ من كل ما يسعى لتفرقتنا ، قال حكيم : عدو عاقل خير من صديق جاهل . ولا يريد الحكيم بالصديق الجاهل كل من لم يتعلم أو من لم ينل شهادة عالية ، ولكنه يريد بالحبيب الجاهل : الذى يقصد أن ينفع فيضر ، وذلك واقع فى الأفراد . وقد يكون لك حبيب مخلص فى محبتك مغال فى ودك فيضر من حيث يعتقد أنه ينفع لجهله بالوسائل المنتجة للخير ، وكم من عالم حصل أمثال الجبال علماَ وهو يسارع فى إهلاك نفسه بمخالفة علمه حرصاَ على ما يفنى زهداَ فى ما يبقى- قال تعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) [22] >> .

النصيحة أغلى ما يباع ويوهب

( إلى الأمة المصرية الكريمة .. إلى الزعماء .. إلى الأحزاب )  [23]

<< المقصود واحد ، والوسيلة لنيله محصورة فى نوعين عظيمين بهما فاز المجاهدون من قبل ، وكل مجتمع تعداهما فشل وذهب ريحه :

أولهما : تنوع أفكار الأمة بأحقية مطلبها حتى يحس كل فرد من أفرادها بما فقده من الخير العام الذى له فيه قسط وافر ولكل إخوته أفراد الأمة مثله من الخير ، متحققاَ أنه لا يناله حظ من ذلك الخير إلا بالتعاون والتعاضد وبإيثار جميع أفراد الأمة على نفسه حباَ فى الخير العام ، معتقداَ أن كل خير ناله فى سبيل جهاده لم يشاركه فيه غيره يعد خيانة تؤدى إلى تفرقة المجتمع وخروج بعضه على بعض ، وكل زعيم أو مجاهد آثر نفسه على نظرائه أو على الأمة فتح ثغر من ثغور الوطن لأعدائه أو للفتن – قال سبحانه يمدح الأنصار : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [24] . وصحائف التاريخ مفعمه بآثار أفراد الرجال الذين نهضوا بالأمم ورفعوها إلى مستوى السعادة العظمى ، ومن الخيانة الكبرى عدم معاونة من يؤثر على نفسه .

       أما النوع الثانى : فهو قيام الأمة متحدة لتنفيذ الخطة الرشيدة التى وضعها أهل العقل والدراية والأناة والحلم الذين حلبوا الدهر أشطره وتجملوا بأحد الجمالين أو بهما معاَ :

جمال التمسك بالدين .. وإيثار ما عند الله على ما فى الدنيا ، وهو ركن النهضة المكين وحصنها الأمين ، والحقيقة التى تضمحل أمامها الحظوظ والأهواء ، وتتضاءل تجاهها كثرة العدة والعدد وقوة الحديد والنار .

ثم جمال شرف المحتد : أى كرامة النسب ومجد الأسرة ، حتى إذا لم يمنع الدين عن الدنايا منع شرف الآباء الكرام ، لأن أهل بيوت الشرف يخافون على ما لهم من تليد المجد ويحرصون على طارئه .

أيها الزعماء : ليس للمصادفة دخل فيما بلغتموه من ثقة الأمة ، ولكنكم وجدتم يقظة من الأمة ومطالبة منها بحقها المغصوب ، فاندمجتم فى سلكها ، وتفوقتم فى بيان الحق المسلوب ، وأظهرتم حماساَ وغيرة وإقداماَ صادف هوى فى نفوس القائمين بالنهضة واعتقاداَ بأن القائلين يعملون ، باذلين ما لديهم من المواهب العلمية والعملية والمالية فى سبيل فوز الأمة بمطالبها العزيزة ، فقامت من ورائكم ومن أمامكم تفديكم بالدماء الغالية والأموال العزيزة وتتلقى عنكم سعير المقذوفات وظلمات الجزن حتى احترقت قلوب الأمهات على أبنائهن ونضبت خزائن المثرين من البذل ، وبعضكم على ما هو عليه من حث الأمة وإغرائها ، حتى بذلت مالا يبذل إلا لمن نالوا أكثر المقد وبقى بعضه ، ثم ظهر أن كل ذلك كلام يرفع الزعماء على رؤوس الأمة ، والأمة متدهورة فى أمورها الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية .

كيف لا ؟ .. وقد نسيت الأمة مقصدها الحقيقى وهو خلاصها من ربقة الاستعباد ، ورق الاستبداد ، والراحة من شرور الخلافات الحزبية ، ومن المضار التى تقع على رؤوس الواثقين بالزعماء من غير أن ينالوا خيراَ أو يحفظوا ما لديهم من المال والصحة والراحة والأمن ، ويزيد على ذلك ضياع نفائس الأنفاس فى الشحناء والبغضاء .

هلموا بنا نواجه الحقائق : قام سعد زغلول وعلى شعراوى وعبد العزيز فهمى يدفعهم إلى الإقدام همة الأمة المستعرة بنار الغيرة لنيل الحرية والاستقلال ، فآثر سعد وطنه وأمته على نفسه فقدم أطيانه الواسعة قرباناَ للوطن ، ثم قام رجل الهمة التى شهدت الأمة حبه لأعماله وشرف نفسه محمد محمود فقدم بيته لمجتمعات الأمة ، وبذل ماله ونفسه مهاجراَ إلى الدول الأجنبية النائية يدعوهم إلى تأييد الوفد ، وقام الشيخ الوقور محمود باشا سليمان الذى أنفق ماله وجاهه و مكانته فى القلوب فجمع الأموال الطائلة للوفد وملأ قلوب المصريين ثقة بالأبطال المؤمنين ، وكان إذ ذاك على رأس الحكومة المصرية حسين رشدى باشا الذى أثار ثائرة الأمة وأبطالها غائبون عنها فأجمعت على المقاطعة فى ظرف واحد ، واحتج الأمراء وهيئة الحكومة وقضاتها ورجال إداراتها وفلاحوها وصناعها فى وقت كانت المقذوفات تحصد نفوس الثائرين حصداَ والأمة كتلة واحدة ، حتى نزل الخصوم على حكمها وأعادوا من اختارتهم من المنفى واعتلى سعد باشا منصة رئاسة الحكومة [25]  رغم ما قدم له من نصائح عقلاء الأمة لينتفع به الوطن خارجها .

وكنت ممن زاره فى بيته منفرداَ وطلبت إليه أن يصل من قطعه ، وأن يحسن إلى من أساء إليه ، ويعطى من حرمه ، محافظة على ثغور الأمة من ثلمة تؤدى إلى ما لا يحمد عقباه ، فإن معظم النار من مستصغر الشرر ، حتى كشفت له الأحداث ستارها عما يجب أن يقوم به لحفظ وحدة الأمة ، فأعلن بعد عودته من المفاوضات أن سعادة الأمة متوقفة على العمل بجد فى تحسين حالتها الداخلية والاقتصادية والاجتماعية ، والأخلاقية وهو رأى حكيم خبر الأمور ، وتحقق أن اشتغال الأمة بالشئون السياسية والمنازعات الحزبية من غير أن تكون الأمة ذات قوة ومنعة واستعداد .. سقوط فى الهاوية .

ثم إنه – غفر الله له – نظر نظرة الرئيس الحكيم الراغب فى سعادة أمته وظفرها ، فتحقق أنه لا نجاة إلا بالائتلاف وباستغلال مواهب رجال الأحزاب الأخرى للأمة ، حتى تعود صفاَ واحداَ كما كانت فى أول النهضة ، فدعا إلى الائتلاف ، وتنازل عن رئاسة الحكومة وولاها غيره بعد أن عاهده على الاتحاد معه على خير الشعب ، ومات رحمه الله بعد أن بذر بذور الائتلاف فى قلوب رجال حزبه ، وبين لهم منفعته فى الظرف العصيب التى كانت تجتازه البلاد .

وها نحن الآن وسعد قد مات ، والمؤسون للوفد مات بعضهم ، والأمة بذلت دماء غالية وأموالاَ طائلة لتنال باقة من آمالها فلم تظفر بها ، والعدو رابض قد جاس خلال الديار ، بل إنه تمكن أكثر مما كان ، لأننا نرى الزعماء كانوا كلما أقدموا على تنفيذ ما به مصلحة الأمة بغيرة وحماس وقف فى وجوهم من وراء ستار فتقهقروا وأنكروا ، لا أقول هذا إلا وأنا ذلك الرجل المصرى الحريص على شرف عامة الأمة فضلاَ عن خاصتها .

وقد كنت مغتبطاَ بمصطفى النحاس باشا وإقدامه وتنفيذه لمبادىء المغفور له سعد زغلول باشا فى شأن الائتلاف الذى به نيل مقاصد الأمة حين أقدم الرجل وأعلن أنه يحرص كل الحرص على أن لا يجعل لأى يد أجنبية تدخلاَ فى الشئون التشريعية ، ولكن سرعان ما وثب المغتصب عليه فتوارى ذلك الشجاع أمامه ، وكانت الشجاعة أن يمضى فى شأنه ليحتفظ بثقة الأمة فيه وفى رجال الوفد الذين ضحوا فى سبيل الوطن بكل غال وعزيز .

وإنى لا يهمنى ، يظن أعداء أنفسهم ميلى لجهة مخصوصة ، فإن الحق فوق الخلق وإن كرهه أهل الأغراض والعلل ، فلم تكن الأمة إذا نهضت نهضتها تطلب أن تفقد فلذات أكبادها وغالى ذخائرها وترجع بخفى حنين ، وإلا فأين السودان ؟ بل وأين النيل مستقبلنا ؟ وأين تلك الثروة الطائلة التى كانت تجنيها مصر من محصولاتها ؟ وأين ما هو أهم من ذلك كله وهو : صفاء الأمة وتعاضدها واتحادها ؟ أوغرت الصدور ، وفسدت الأخلاق ، وأصبحت الصحف معول تفرقة ومسارح غفلة ، ضاع الحياء ، وفقدت الرحمة ، وتنابز القوم حتى لاتكاد ترى من المتنافسين رجلاَ تدعوه فضيلة نفسه وشرف محتده إلى أن يترفع بنفسه عن مستوى الهمج الرعاع .

أقام الحزب الوطنى  [26]  وحده الحجة على أنه هو الحزب الفاضل ، الذى يكثر ويقدم عند الفزع ، ويختفى عند السخرية والتنابذ ، وقد أثبت الحزب الدستورى اليوم أنه أقرب إلى الفضيلة والبعد عن المثالب .

واختتم كلمتى هذه بإيجاز ما أريد : أريد من الأمة أن تواجه الحقائق وأن تزن الحاضر بها ، وأن تقف موقف الاعتبار بالأحداث السالفة ، وأن تهتم كل الاهتمام بتأييد كل عامل ، والإنكار الشديد على كل داع للخروج عليه ، فإننا لا نمكن الخصوم منا بأيدينا .. والله لا يضيع أجر من أحسن عملاَ >> .

ويرسل الإمام رسالة إلى قادة الأحزاب صدقى باشا ، ومصطفى النحاس باشا ، ومحمد محمود باشا ، فى وقت بلغ التطاحن الحزبى مداه تنافساَ على كراسى الوزارة ورئاسة الحكومة ولو بإرضاء المحتل الإنجليزى محذراَ لهم من مغبة التفرقة ، ويدعوهم لجمع كلمة الشعب وأن ينهضوا بالأمة ، ويحذرهم بأنهم إن لم يفعلوا ذلك سينالون نقمة الجبار وستزول عنهم الكراسى وسيلقون المهانة والذل ، قال محذراَ وناصحاَ :

يا بنى الإسلام طالت رقدة

 فى افتراق فى اختلاف فى كرب

كان أهل الغرب  أتباعاَ لنا

يحملـون العلم عنا  فى  رهب

فانهضوا بالدين خلوا فرقة

فالصناعـة كنزها  فيه  الطلب

طالت الرقدة  قوموا  قومة

باتباع  الدين  فالشـرع   كتب

طهروا الألباب من شحنائها

فاختلاف  القوم  داع  للعطـب

ثم يختتم تلك القصيدة العظيمة بتحذيره ونصحه لصدقى وللنحاس ومحمد محمود قائلاَ :

أنت يا صدقى ويا نحاس ويا

نجل محمود أفيقوا من رغب

واجهوا  الأمة  احيوها   بما

يرفع  الأمة  فالوقت  اقترب

وكان عند الإمام مطبعة فى قصره تطبع مجلاته وكتبه أسماها بمطبعة (( المدينة المنورة )) وفى أثناء ثورة 1919 وضعها تحت تصرف تحت تصرف سعد زغلول ورفاقه وتطبع لهم المنشورات السرية ، وهى ما أسماها الثوار بمطابع (( اليد السوداء )) التى كان يتعقبها الإنجليز فى كل مكان ، وقد انكشف مصدر هذه المنشورات على يد بعض الخونة ، واعتقل الإمام وابنه الأكبر السيد أحمد ماضى أبو العزائم على إثر منشور طبعه ضد الاحتلال الإنجليزي ، وتلك التى يكتبها الثوار السياسيون وتندد بالاستعمار وتبعث فى نفوس الشعب الحمية والقدرة على المواجهة ، وكذلك طباعة الكتب التى يظهر فيها عداؤه للاستعمار ، فقد أصدر الإمام كتابين أحدثا دوياَ هائلاَ فى الأوساط السياسية والإسلامية وقتها ، فكتابه ((الجهاد)) [27] يشير إلى النتائج الباهرة التى حققها المسلمون الأوائل والتى لو تمسك بها المسلمون فى العصر الحاضر أعاد الله إليهم مجدهم ، وكتابه (( محكمة الصلح الكبرى )) وهو يشير إلى أن الساسة المجتمعون حول مائدة الصلح بباريس وحوش وذئاب يجتمعون على الإيقاع بالفريسة حتى إذا وقعت تفرقوا طمعاَ فى اقتسامها فيما بينهم كل يبنى لنفسه أكبر نصيب منها ولذا فلا يرجى منهم خير ، ولا ينتظر منهم صلاح أو وفاء بوعد أو عهد ، لأنهم لا إيمان لهم ولا عهد لهم ولا ميثاق ، ولن ينصلح الحال إلا إذا أصلح كل فرد نفسه وتصالح مع حقائقه .

وكانت تحدث مضايقات كثيرة من الحكم البريطانى للإمام وخصوصاَ أيام الاحتفالات ، وفى ذكرى لمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت أفواج المريدين متشوقة من البلاد ، ولما اجتمعوا حول دار الإمام وملأوا الشوارع أبلغت المخابرات أن الإمام يجهز لعمل ثورة ضد الإنجليز ، فجاءت القوات وفرقت معظم الإخوان ، ثم أتى القائد إلى سماحة الإمام وكان جالساَ ، فنزل من على الفرس وجلس بجوار الإمام وقال له : يا ماضى أنت تحاربنا وتجمع الناس علينا ، فرد الإمام بهدوء : ما تقول لو أنك جالس تحتفل بمولد السيد المسيح ويأتى أناس ليعكروا صفو الاحتفال ؟ ألا تقول إن هؤلاء الناس ظالمون وأنهم جهلاء وأنهم معتدون ؟ نحن اليوم نحتفل بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بأيدينا سلاح ، ألا تعلمون أنكم تكذبون فيما تقولون فى إذاعاتكم وجرائدكم أنكن وجدتم أنكم وجدتم شعباَ ظالماَ وأنكم تقررون مصيرهم لترجعوهم للحياة السليمة ؟ لقد حضرت الآن ونحن فى فرح برسول الله صلى الله عليه وسلم لتعكر الصفو ، وهنا اعتذر القائد العام علنا َ أمام الناس .

وكانت داره رضى الله عنه بالقاهرة فى أعقاب عام 1918 أشبه بخلية نشطة يتجمع فيها شباب مؤمن بربه وبوطنه ، ينتشر فى النهار داعياَ إلى الثورة حاملاَ منشورات تلهب حماس الشعب فتذكره بأمجاده وبطولاته ، فإذا جن الليل عادوا إلى السراى متخفين ، فيهجعون فى سراديبيها ومخازنها ، متوارين عن أعين جواسيس الاحتلال ، فإذا قضيت صلاة الفجر استأنفوا جهادهم ، ودام يمنعه ذلك من القيام بدوره فى هذا الشأن أو التقليل منه ، وإنما زاده إيماناَ بهذا الدور وواجباَ يفرضه عليه دينه ووطنه .

إن الاستعمار يضيق بوطنية زعماء رجال الدين لأنه يعلم مدى تأثيرهم فى نفوس المسلمين ، وخصوصاَ إذا كان الداعى على صدق فى دعوته ، وقد كانوا يعرفون من هو الإمام أبو العزائم عندما كانوا يسترجعون حياته بالسودان إلى أن اضطروا إلى إعادته لمصر ، ولقد حاول الاحتلال أن يسكت صوت الإمام بكل وسيلة ممكنة وخصوصاَ أنهم يعرفونه ويعرفون مدى تأثيره الوطنى الحماسى ، فتدرج معه من الإغراء إلى الإرهاب ثم إلى العنف والقمع ، وكان أن ألقى القبض عليه مرتين فى عام واحد الأولى فى 11 من ربيع الأول عام 1338 هـ والثانية فى 17 رمضان من نفس العام ويوافق عام 1919 الميلادى .

وتحدث سماحة الإمام السيد أحمد ماضى أبو العزائم – النجل الأكبر للإمام وخليفته الأول – عن الاعتقال الثانى للإمام فيقول :

<< كانت المنشورات مع بعض المجاهدين ممن تتلمذوا على يد السيد الوالد ، وكانوا يلجأون إلى السراى ابتعاداَ عن أعين مخابرات الإنجليز وجواسيسهم ، وكانوا كثيرين ، وكانت مطبعة << المدينة المنورة >> لا تكف عن طبع المنشورات السرية التى تحرض على الثورة ، وكنت مديراَ للمطبعة ورئيساَ لتحرير مجلتى السعادة الأبدية والمدينة المنورة ، وكان والدنا الإمام رضى الله عنه لا يكف عن إنزال اللعنات على المستعمرين سواء فى الدرس العام أو فى جواله بالبلاد ، فى كتبه ومقالاته فى المجلات والصحف .

وقبيل منتصف ليلة السابع عشر من شهر رمضان المبارك عام 1338 هـ سمعت وقع أقدام خيول وسيارات وجلبة صاخبة ، فأسرعت إلى المطبعة أخفى المنشورات وأعدم المسودات ، وأبلغت سيدى الوالد الذى كان يجلس فى غرفة نومه بالطابق الأول ، وما هى إلا لحظات حتى أحاط بالبيت الجنود من كل جانب شاهرى أسلحتهم فى منظر رهيب أشبه بإعلان الحرب ، وسأل قائدهم عن الإمام فقلت له : إنه بغرفة نومه فأسرع إليها شاهراَ مسدسه وطلب تفتيش الدار جميعها بحثاَ عن مكاتبات سرية بين الإمام وبعض الزعماء المسلمين وفى مقدمتهم كمال أتاتورك – وكان يحارب الخلفاء وقتذاك - ، وكنت أعرف أن والدى يضع المكاتبات السرية فى صندوق كبير بغرفة نومه ، فأمسكت أنفاسى لأنى أيقنت أنهم سيعثرون عليه لا محالة إذ كيف السبيل إلى إخفائه ؟! . ولشد ما دهشت عندما رأيت والدى رضى الله عنه يجلس فوق الصندوق ويقول للقائد : فتش كما تريد فليس عند الشيخ شئ يخفيه ، وازدادت دهشتى عندما خرجوا جميعاَ من الغرفة دون أن ينتبهوا إلى أن الإمام يجلس على صندوق وبجواره الكرسى الذى اعتاد الجلوس عليه . وذهب الوالد معهم ورافقناه إلى ثكنات قصر النيل >>.

ولم يكد نبأ اعتقاله يشيع بين أنصاره وأتباعه حتى أبرقوا إلى المندوب السامى مهددين متوعدين إن لم يطلقوا سراحه ، وقد ذهب << رسل باشا >> ليتفقد الإمام فى معتقله فوجده يصلى ووراءه الموكلون بحراسته من الجند الذين كان يربو عددهم على 80 جندياَ ، ولما أتم الإمام صلاته دعا فقال : اللهم أهلك الإنجليز ، اللهم اخرج هذه الفئة الطاغية من بلدنا ، اللهم أبطل كيدهم ، والجند من ورائه يقولون : آمين . فانزعج << رسل باشا >> وأمر بإطلاق سراحه فوراَ لأنه فى سجنه أخطر عليهم من حريته .

وكان اعتقال الإمام فى بلوكات الخفر بشارع الخليج المصرى  [28] فى ميت أبو إصبع والتى تحولت حالياَ إلى مدرسة السعادة ، وفى يوم الخميس 16 رمضان 1339 هـ  [29] الموافق لليلة بدر الكبرى ، قال الإمام وهو معتقل بعد صلاة عصر هذا اليوم إملاء على ولده السيد أحمد ماضى أبو العزائم :

جمالك  يا جميـل  بـه  تجلى

 ليشهـده  عبيـدك  حيث  ولى

وآنسـنى  بوجهك  وامح  همى

 فإنى  لا  أطيق  لذاك   حمـلا

أغثنى  بالإجابة  أعل  قـدرى

 أعز  العبد  بالعليـاء  فضـلا

دعـاك  رجال  بدر  واستغاثوا 

أغث  وارحـم  فأنت الرب جلا

أغثنى واستجدب لى أنت حسبى 

فأيدنى  بروح  منـك   طـولا

أنا  المضطر  أدعـو  مستغيثـاَ 

 تفضل  وانظرن  يا نعم   مولى

إلهى  عمنـا  بعميـم  فضـل 

 وإن  كنت  المسئ  ولست أهلا

أغث  عبداَ  ينادى   باضطرار

مجيباَ  قادراَ   بالعبـد  أولـى

أغثنى  نجنى  من  كل  هـول

أذل  خصومنـا  يارب  فعـلا

تدارك  ضارعاَ  يرجو   مجيباَ

قوياَ    قادراَ   طولاَ   وحـولا

فأظهر  آية  كبرى  انتصـاراَ

 لعبدك  وامحـق  الأعداء كلا

لقد  ظلموا  عبيدك  فانتصر لى

وقرب  ضارعاَ  زلفاَ   ووصلا

بمن  نادوا  ببدر   باضطـرار

أغثتهمـو  منحت  الكل   سؤلا

سألتك  عائذاَ  بك  فاستجب لى

 وأسعـدنى  بفضل  منك  يولى

وسـيلتى  الحبيـب  وآل  بدر

فنجح  قصد  من  يدعوك فضلا

وجدد  لى  مسـراتى  وأنسـى

 فأنت  بعبدك  المضـطر  أولى

وأمة  سـيد   الكونيـن   ربى

أغثنـا بالجمـال لنـا  تجـلى

بجاه المصطفى الهادى استجب لى 

عليه  الله  فى  القرآن  صـلى

     وقال فى هذا اليوم أيضاَ :

أغثنا  فقد  عودتنا   الفضل   والخيرا 

أغث ضارعاَ يدعوك  يارب مضطرا

تداركت   أنصار   النبي   محــمد

ببدر وعند  الخطب  قد  تنفع الذكرى

أغثني   فقد  نـاديت   ربـا   قادراَ

يجيب  دعـا  المضطر  يرفعه  قدراَ

أيـا رب  مضـطر  غريـب وعائذ

توسلت  بالأمناء  من  شهـدوا  بدراَ

أغثني أيا  قيوم   يا حي    وأدفعـن

شرور الأعادي أهلكن جمعهم   قهراَ

إغاثـة   حنـان   سريـع وقـادر

حفيظ سلام قد  أعـان  بهـا  برا

وفى يوم  بدر  استغيثـك   سـيدى

إلهي استجب   لى وامنح الضارع النصرا

لك الحمد..  قلبى مطمئن وموقن

فقد نلت منك الاستجابة   والبشرى

فأظهر لعبدك آية الفضل والرضـا

كآية بدر  فى  نهار  لهـا  ذكـرى

لك الحمد يا معطى لك المجد والثنا

على نعم  لا  نستطيع  لها   شكـرا

وصل على الغـوث الشفيـع محمد

وآل  وأصحاب  ومن  شهدوا  بدرا

 

فجاءه النصر من عند الله بعد إملاء هذه القصيدة مباشرة وتم الإفراج عن الإمام وخليفته السيد أحمد رضى الله عنهما .

 


[1]  مفهوم الثورة عند الإمام : كلمة حق عند سلطان جائر .

[2]  يشير إلى اللورد كرومر

[3]  تعداد مصر فى ذلك الوقت .

[4]  الإمام أول من لقب سعد زغلول بلقب زعيم الأمة .

[5]  جريدة الأخبار أسسها يوسف الخان بالقاهرة سنة 1896 م

[6]  مجلة السعادة الأبدية  : السنة 2 العدد 1 ص 33 ( شوال 1346هـ )

[7] سورة طه آية 44 .

[8]  كتاب ( الإمام محمد ماضى أبو العزائم ) للأستاذ عبد المنعم محمد شقرف ز

[9]  أبو داود وابن ماجة والدارمى ومالك فى الوطأ .

[10]  سورة الطلاق آية 2 ، 3 .

[11]  سورة آل عمران آية  126 .

[12]  المقالة الإفتتاحية لجريدة الجمهورية 17 نوفمبر 1923 الموافق 8 ربيع الآخر 1342 هـ .

[13]  جريدة الوطن ، العدد 9054 ، 13 شعبان 1343 الموافق 18 مارس 1925 ، ص 1 ع 6 ( أسسها ميخائيل عبد السيد بالقاهرة سنة 1877 .

[14]  سورة فصلت آية 34 .

    [15]المقالة الإفتتاحية بجريدة الوطن : العدد 9002 ( 16 جمادى الآخر 1343هـ الموافق 11/1/1925م ) .

[16] سورة المائدة آية 2 .

[17]  سورة الأعراف آية 199

[18]  المقالة الإفتتاحية بجريدة الأخبار فى نوفمبر 1925 م الموافق جمادى الأولى 1344 .

[19] رواه أحمد والحاكم  بلفظ : ( ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه ) ، ورواه الطبرانى فى الكبير بلفظ : البركة  فى أكابرنا ، فمن لم يرحم صغيرنا ويجل كبيرنا فليس منا ) ، ورواه أبو داود بلفظ  : ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا ) . والترمذى بلفظ ( ويعرف شرف كبيرنا ) .

[20] توفى سعد زغلول سنة 1927 ، وخلفه مصطفى النحاس فى رئاسة حزب الوفد .

[21]  المقالة الإفتتاحية بجريدة  السياسة الصادرة بتاريخ 30/6/1928 م الموافق 12 12 محرم 1347 هـ .

[22]  سورة المائدة آية 2 .

[23]  المقالة الإفتتاحية  بجريدة السياسة فى 13 /7 / 1928 م الموافق 9 صفر 1347 هـ .

[24]  سورة الحشر آية 9 .

[25]  تولى سعد زغلول رئاسة الحكومة  عام1923 وعزل ، ثم عاد مرة  ثانية  عام 1926 .

[26]  الحزب الوطنى أسسه الزعيم مصطفى كامل  ، وكان الإمام  يعطف عليه ويدعو له .

[27]  ألقاه الإمام على هيئة محاضرات بالمسجد الجامع بالخرطوم أيام تواجده بالسودان ، ثم نشر على هيئة مقالات فى جريدة ( السعادة الأبدية )  بمصر وقام الخليفة الثانى  للإمام  سماحة السيد عز الدين ماضى أبو العزائم رضى الله عنه بطبعه ككتاب  وأصدره عام 1970.

[28]  شارع بور سعيد حاليا  .

[29]   الموافق 26 / 5 / 1921 م .