فلنحاسِبْ أنفسَنا قبل أن نُحَاسَب

12/04/2021
شارك المقالة:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

   ذات مرة كنت أشاهد قناة تلفزيونية وكان الحديث فيها عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت العناوين الرئيسة لذلك الحديث هي:

- أنه الرجل الذي أرسى قواعد السلام فى ثلاث وعشرين سنة.

- وأنه الرجل الذي نادى بحقوق المرأة من قبل أن ينادى بها أحد إطلاقا.

- وهو الرجل الذي بَنَى أمةً في سنوات قليلة.

 

  وفضائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تحصى ولا تستقصى، وهو أسوتنا العظمى كما ورد في قول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) "الأحزاب:21" والواجب علينا أن نتبين ونتعرف على منهاجه صلى الله عليه وآله وسلم ليحسن اتباعنا له، ونعلم منهج المخالفين له صلى الله عليه وآله وسلم لنتحصن منه.

منهاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

   في خلال حوالي اثني عشر عاما من أول بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تُفرض عبادة : لا صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج، وأول عبادة من هذه العبادات فرضت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة تقريبا؛ وهي فريضة الصلاة، وكان منهاجه صلى الله عليه وآله وسلم البدء بتربية الشخصية الإسلامية على العقيدة الحقة والأخلاق الفاضلة والمعاملة الحسنة، وأن يجعل الجنة نُصب عين المؤمن وهدفًا له، وكوّن صلى الله عليه وآله وسلم مجتمع المسلمين الأُوَل الذين اشتاقوا إلى الجنة وانفعلوا بها؛ حتى كأنهم يعيشون فيها ويعاينون جمالاتها.

   تلك الجنة التي لم تذكر التوراة أى شيء عنها غير جنة سيدنا آدم عليه السلام، وكذلك الإنجيل لم يذكر شيئا عن الجنة، ولكن القرآن ذكر الجنة في الكثير من آياته، ووصفها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة رضي الله عنهم حتى كأنهم عاينوها؛ وأكلوا من ثمارها؛ وشربوا من أنهارها؛ وأنِسُوا بحورها؛ وشاهدوا جمالاتها؛ وشموا طيب عبيرها؛ وكأنهم واجهوا فيها وجه حضرة المنعم الوهاب سبحانه، فاتخذوها رضي الله عنهم هدفا يهون من أجله كل شيء؛ بما في ذلك بذل النفوس والمُهج.

   لو قلنا إن هناك 99% من الناس سيدخلون الجنة؛ هل سيتمنى أحدٌ الموت؟، لا، إنه سيقول: إن 1% يمكن أن يدخلوا جهنم، ويخشى أن يكون هو من ذلك الواحد في المائة، فيجبن ويكره الموت، ويتشبه بمن قال الله تعالى فيهم: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) "البقرة:96".

    فأين هذا من الصحابي عمرو بن الحمام الذي تعجل الشهادة في غزوة أُحُد؛ فنزع تمرات من فمه كان يأكلها وألقاها وقاتل لينال الشهادة فيدخل الجنة، وقُتل شهيدا رضي الله عنه.

    وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيّن لهم أن الطريق إلى الجنة هى الأخلاق الحسنة: (النية الحسنة تُدْخِل صاحبَها الجنة، والخُلُق الحَسَن يُدخِل صاحبَه الجنة...) "الديلمي" وقال صلوات الله وسلامه عليه: (إن أفضل ما يوضع في الميزان يوم القيامة: الخُلُقُ الحَسَن "الطبراني"  وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الخُلُق الحَسَنُ يُذِيبُ الخطايا كما يُذِيبُ الماءُ الجليدَ، والخُلُق السوء يُفْسِدُ العملَ كما يُفْسْدُ الخلُّ العسلَ) "الطبراني ".

   وبعدما فرضت العبادة بيّن صلى الله عليه وآله وسلم أنه إن لم تكن ثمرة العبادة هى الأخلاق؛ فلن تنفع، كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى صلاةً فلم تأمُرْهُ بالمعروف ولم تَنْهَهُ عن الفحشاءِ والمنكرِ لم يزدد بها من الله إلا بُعْدًا) "البيهقي في شعب الإيمان" أي: لابد من الأخلاق.

    وكما ورد: (رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامِه إلا الجوع، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر) "ابن ماجه والنسائي" أي: لا غنى عن الأخلاق.

 بل إن هناك لاءات الأحاديث النبوية الشريفة ومنها:  

    (لا يدخل الجنة قاطع رحم) "البخاري ومسلم وغيرهما".

    (لا يدخل الجنة قتات) وفي لفظ: (نمّام) " البخاري ومسلم وغيرهما".

    (لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق ولا منان) "الطبراني وغيره".

    (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كِبْر) "مسلم".

    (لا يدخل الجنة عاقٌّ لوالديه ...) "أبو نعيم وغيره".

       (لا يدخل الجنة خَبٌّ ولا خائن) "الطيالسي". "والخَبُّ: هو الخَدَّاع".

     (لا يدخل الجنة دَيُّوثٌ) "الطبراني". "والدَّيُّوثُ معروف، وهو الذي لا يغار على أهله".

    (...ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه، قيل: يا رسول الله ما البوائق؟ قال: غشمه وظلمه...) "الطبراني".

    فيصلى أحدهم ويصوم ويزكى ويحج ولن يدخل الجنة طالما أنه مقارف لإحدى تلك المساوئ الأخلاقية، والآن نحن خائفون من الموت خشية عدم دخول الجنة.

    إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أسوتنا العظمى، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم قدوة عملية، ففي ذبح الشاة مثلا يقول أحد أصحابه: علىّ ذبحها، ويقول آخر: علىّ سلخها، ويعلن صلى الله عليه وآله وسلم أن عليه جمع الحطب، وهكذا - في كل شيء - كان صلى الله عليه وآله وسلم أعظم قدوة.

    وأهل بيته وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين هم من صور القدوة الحسنة.

    والتصوف هو مقام الإحسان الذى قال عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) "أحمد، والبخارى، ومسلم، وغيرهم".

    هذا هو منهج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فى بناء الرجال.

منهج المخالفين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

    إنهم لا يتكلمون عن الجنة، بل جُلُّ كلامِهِم عن عذاب القبر وأهوال يوم القيامة.

    ذات مرة صليتُ بمسجدٍ فسمعتُ خطيبَ المسجد يصف جهنم ويقول: لما تمشى فى الشارع الفلانى تجد كذا وكذا يعذبون، وتدخل ناحية اليمين تجد أيضا جماعة يعذبون بكذا وكذا، وناحية اليسار كذلك، وهكذا، ولما انتهى الخطيب من خطبته سألته سؤالا: كم سنة عشت فى هذه النار ؟!!!.

    إنهم لا يفعلون ذلك لكي يخاف المسلمون فيعملون الأعمال الصالحة، لا، ولكن يفعلون ذلك حتى يكره المسلمون الموت فيتشبهون بغير المسلمين الذين قال الله تعالى فيهم: (فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ) "البقرة:94-95".

    هم يريدون للمسلم أن يكره الموت، ولا يريدونه أن يطمع في جنة الله تعالى، وهم لا يريدون أن يحارب المسلم غير المسلم من أعدائه وأعداء دينه الذين ظلموه واحتلوا أرضه وهتكوا عرضه واستولوا على خيراته، ولكن يريدون أن يحارب المسلم أخاه المسلم بعد تكفيره واستحلال دمه، يريدونها حربا داخلية لإبادة المسلمين.

    لقد اهتم هؤلاء باللحية والجلباب القصير والصلاة والعبادة البدنية فقط, ولم يهتموا إطلاقا بالأخلاق، فاستحلوا أموال غيرهم من المسلمين ودماءهم وأعراضهم بحجة أن هؤلاء المسلمين كفار في نظرهم.

    والذين يفعلون ذلك لا خلاق لهم.

القدوة والأخلاق:

     التصوف الحقيقي هو منهج الأخلاق الفاضلة، وهو في الحقيقة منهج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في التصوف.

     عندما أقول: أنا سمعت كلمة طيبة من فلان ، وهذا رجل عظيم، وهو يصلح أن نقول عليه : سيدنا؛ لمَّا نقول عليه هذا؛ هل يُتخذ كقدوة أم لا يتخذ قدوة؟.

     لِمَ يقولون : لا تطلقوا لفظ السيادة على رسول الله ولا تصلوا عليه في موضع كذا أو كذا؟ ولِمَ يقولون: اعمل مثله تكن مثله؟ بل إن واحدا من رواد هذا الفكر أمسك بعصاه وقال: هذه العصا أنفع لي منه؟  - حاشا لله تعالى ونستعيذ الله جل شأنه من ذلك -.

     أيكون هؤلاء بذلك قد اتخذوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قدوة؟ وهل اتخذوا أهل البيت والصحابة رضي الله عنهم قدوة؟!، لا والله.

     إن هؤلاء على عكس منهج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم يعملون لإفساد الأمة بمحاولة حجب الناس عن الأسوة الحسنة صلى الله عليه وآله وسلم؛ ومحاولة إسقاط مهابته من قلوب المسلمين، وهم يحاربون التصوف لأنهم يعلمون أن التصوف يجمع الأمة ولا يفرقها.

     في 12 أغسطس سنة 2001 ذهب بعض المسلمين حتى يحتفلوا بالمولد النبوى الشريف، وجاء زعيم أمة الإسلام لويس فرقان وقال: " أبشركم أن أمريكا خلال 30 سنة ستكون مسلمة".

   إنني أطلب منكم الآن أن تتخيلوا أننا لسنا نصارى ولا يهود ولا مسلمين، وتخيلوا أننا أمريكان، وسمعنا هذا القول بأن أمريكا ستكون بعد 30 سنة مسلمة، هل سنسعد بهذا نحن كأمريكان؟!.

    طبعا لن نسعد، وسنسأل أنفسنا أسئلة: هل الشارع الأمريكى النظيف سيكون مثل شوارع المسلمين غير نظيف؟! وهل البيئة الأمريكية التي تخلو من الذباب سيكون فيها عددا هائلا من الذباب لكل مواطن؟! وهل العامل الأمريكي الذي بنى اقتصاد أمريكا سيكون مثل العامل الذى يعمل 10 دقائق ويقول: "على قد فلوسهم" وينهار اقتصاد أمريكا؟!، وهل تعيين الرؤساء والأمراء سيكون بالمحسوبية والرشوة؟!.

     وهل؟ وهل؟ وهل؟ أسئلة عديدة تثيرها حالة المسلمين الراهنة.

     وللأسف، نحن - كمسلمين - الذين شوَّهْنا صورة الإسلام وأسأنا إلى الإسلام.

 

    قبل البعثة المحمدية كانت هناك أخلاق لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اشتهر صلى الله عليه وآله وسلم بخلقين منها، هما: الصدق والأمانة، هل نعلم ما معنى هذا؟.

    في اعتقادي أنه لكي يكون المسلم مسلما حقا فلا بد له - قبل أي شيء - أن يكون صادقا وأمينا.

    والذين يسافرون إلى الخارج ويعيشون مع الشعوب المتقدمة؛ يجدون أن هؤلاء لا يكذبون ولا يخونون، لأنهم علموا أن في ذلك نجاحهم في دنياهم، ونحن أولى منهم بالتخلق بالصدق والأمانة لأن ديننا يأمرنا بذلك.

من أنواع الخيانة:

    أتكلم هنا عن نوعين من الخيانة : نوع يستحق صاحبه الموت، ونوع آخر ليس عندنا علي صاحبه عقاب ولكنه لا يقل جرما عن النوع الأول.

النوع الأول:

    خيانة الوطن، كالذين يتعاونون مع إسرائيل ومع أمريكا ومع أعداء الأمة الإسلامية ضد بلادهم، هؤلاء يكونون خائنين لأوطانهم، والخيانة الزوجية: فمن يخون زوجَه يُرجم، أليس كذلك؟.  

    وهاتان الخيانتان؛ استحقاقُ الموتِ واضحٌ لمن تلبَّس بأيٍّ منهما.

النوع الثاني:

      كالمدرس الذي لا يشرح للتلاميذ من أجل أن يعطِى لهم دروسا خصوصية، أليس هذا خائن؟  إنه يفسد أمة لمصلحة أعداء الأمة، فهذا فَقْدُه أرحم من وجوده، وإن صدق فيما بينه وبين نفسه فعليه أن ينظر إلى نفسه فى المرآة فيقول: أنا فعلا خائن، أنا أضيع أمة، لا علم؛ ولا أخلاق.

     والفلاح الذي يهمل في زرعه وينام إلى الظهر ولا يوفر قوت المسلمين؛ خائن للأمة.

     والعامل الذي لا يتقن عمله؛ والتاجر الذي يغش بضاعته؛ والصانع الذي يهمل صنعته؛ والمرتشي؛ والسارق؛ كل هؤلاء خونة لهذه الأمة خيانة يستحقون عليها إقامة حدود الله تعالى عليهم لتستريح الأمة من شرورهم.

     إننا لابد أن نُحَاسِب أنفسنا قبل أن نُحَاسَب، نريد أن نرجع إلى الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، نرجع إلى الخُلُق الحَسَن، وأبسط شيء أن نكون: صادقين وأمناء، فأسأل الله سبحانه نتحلى بالصدق والأمانة.

السيد علاء الدين ماضى أبو العزائم

شيخ الطريقة العزمية

ورئيس الاتحاد العالمى للطرق الصوفية