بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

19/06/2021
شارك المقالة:

 

مَن جوَّدَ البسملة غُفر له:

    قال بعض العلماء رضي الله عنهم: « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ » قَسَم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة، يُقسم لعباده إن هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حق، وإني أفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري.

   وروى القرطبي في تفسيره عن عليّ بن الحسين – رضي الله عنهما - في تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) "الإسراء:46" قال معناه: إذا قلت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ).

   وروى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه  قال: من أراد أن يُنجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ) ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جُنَّة من كل واحد. فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) "المدثر: 30" وهم يقولون في كل أفعالهم: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ) فمن هنالك هي قوتهم، وببسم الله استضلعوا.

   وقال سعيد بن أبي سكينة: بلغني أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه نظر إلي رجل يكتب (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ) فقال له: جَوِّدْهَا؛ فإن رجلا جَوَّدَها فغُفر له.

حُكم البسملة:

   أما حُكْمها فقد ذكر الإمام أبو العزائم في تفسيره أنه يجب النطق بها في الصلاة عند من يقولون: إنها آية من الفاتحة - وهم قراء الكوفة ومكة وفقهاؤهما؛ وهو مذهب الإمام الشافعي رضى الله عنه  - وحجتهم: إثبات السلف الصالح لها في المصحف، أما قراء المدينة والبصرة والشام فلا يرونها آية من الفاتحة، ويرون إثبات السلف لها للتبرك، فيكون الافتتاح بها في الصلاة أو في كل عمل ذي شأن: سنة، ويكره عندهم الجهر بها في الصلاة، وهو مذهب الإمام مالك ومذهب أبي حنيفة ومن تابعهما.

الافتتاح بالبسملة ليعلّم عباده الأدب معه سبحانه:

    أما حكمة الافتتاح بالبسملة وحكمة الترغيب فيها وبركتها فقد ذكر رضى الله عنه  أن الله سبحانه افتتح الكتاب العزيز بالبسملة ليعلم عباده الأدب معه سبحانه، واستحضار ذكر اسمه عند كل عمل أو قول، أو حال ذي شأن، وبذلك يكون المسلم حاضر القلب، مشاهدًا غيبًا مصونًا من دقائق علم التوحيد؛ لأن المسلم يقول: أبتدئ بسم الله، أو أعمل، أو أصنع، أو أؤلف، أو آكل باسم الله؛ فلا ينسى في كل شأن من شؤونه أن يذكر ربه، مراعيًا العبادة الخالصة في ذكره، وكيف ينسى المسلم ربه وهو جل جلاله تنزه عن أن ينساه؟!.

   فالبسملة حجة قائمة لمن يقولها، مراعيًا معناها، على أنه حاضر القلب مع ربه، كثير الذكر له جل جلاله كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)"الأحزاب: 41".

   وقد رغّب فيها رسول الله بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ" فهو أبتر)، أي: ناقص وقليل البركة، وهذا الحديث الشريف يشير إلى أن الابتداء بالبسملة يدل على حضور القلب مع الله تعالى رعاية للتوحيد؛ لأنه سبحانه هو الفاعل المختار.

   فإذا ابتدأ المسلم بالبسملة أثبت عجزه عن القيام بالعمل، أو العجز عن إتمامه فالتجأ إلى الله مستعينًا به سبحانه، فحصلت له العناية من الله، وكتب من الذاكرين، وسجل له عمله في سجل العبادة؛ لأن العبادة كلفنا الله بها لشكره وذكره.

من بركات البسملة:

   ومن بركاتها طمأنينة القلب بنجاح العمل، أو السلامة من سوء عاقبتة، ومن بركاتها شرح صدر العامل فرحًا بتوفيق الله بذكرها، ومنها أيضًا أن يقلده أبناؤه وإخوانه، فيكون قد أعان على خير.

    والفاتحة سبع آيات، وسميت الفاتحة لافتتاح المصحف بها، وقد تضمنت - مع قصرها - جميع معاني القرآن والكتب السماوية من قبله؛ لأن الله سبحانه وتعالي افتتحها بصيغة الحمد لنفسه بنفسه، ورضي بهذه الصيغة من خلقه، لأنه طالبنا بحمده فعجزنا، فرضي منا  بما  حمد به نفسه.

الحامد لابد أن يكون موحِّدا للمحمود:

   ولفظة الحمد دلت على توحيد الأسماء والصفات كلها؛ لأن الحامد لابد وأن يكون موحدًا للمحمود، معتقدًا اتصافه بكمال الأسماء والصفات، محبًا له، مسارعًا إلى طاعته، فمن لم يعتقد تلك العقيدة فليس بحامد الله تعالى، وليس المراد مجرد ألفاظ تتلى، إنما المراد رعاية معاني تلك الألفاظ ، وذوق العقل والنفس منها...

   فإذا زكت نفسه أفلح فكوشف بتفريد الله تعالى بالصفات المحمودة  التي بها ينال الخلقُ الخيرَ بفضله سبحانه، لأنه غنىٌّ عنهم غِنى يجعله يختص بالحمد دون غيره، فلا يحمد سواه جل جلاله، فيترقى العبد من العلم إلى الذوق، ومنه إلى الشهود، وهذا هو الذي إذا قال: (الْحَمْدُ للّهِشهد توحيد الأسماء والصفات، وأشرقت عليه أنوارها.

 وجوب الوقوف بالأدب عند أسماء الله تعالى وصفاته:

   أما قوله تعالى: (للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فهو الاسم الأعظم، الواجب الوجود لذاته، المفرد، العَلَم الدال على الإله الحق دلالة جامعة لجميع الأسماء الحسنى الإلهية الأحدية، الجامع للجمال والجلال والبهاء والنور والضياء، والكمال لذاته بذاته.

   وهنا يعلِّمنا الإمامُ أن نقف بالأدب عند أسماء الله تعالى وصفاته؛ فلا يجوز لأحد أن يَهْرِف بما لا يعرِف، ومعرفة ذلك ترجع إلى فضل الله تعالى وحده.

   ويبيِّن أن أهل العزائم منحهم الله النور الذي به أفردوا حضرة هذا الاسم المقدس بالقصد دون غيره، لما في جميع الأسماء من الصفات التي تدعو السالك إلى التأله لها؛ إلا هذا الاسم الأعظم، ذكره حضورًا: طمأنينة للقلوب، والنطق به وجودًا: خروج من الظلمات إلى النور، وهو سبحانه وتعالى وليّ المؤمنين، قال تعالى: (فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ)"الشورى:9"، لا يخلص إيمان مؤمن من الشوب إلا إذا تأله له دون غيره، وهو جل جلاله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

   ويقول رضى الله عنه  نظما في إحدى قصائده مبينا وسعة الأسماء الإلهية الحسنى:

أراكِ أيا معنى الصفاتِ جَلِيَّــــةً

وتلك المظاهرُ ثَمَّ حانُ مُدامــــــــي

لقد سَتَّرَتْ معنى الصفاتِ مَعالمي

لدى الكونِ من نفسي ومن أوهامي

   إلى أن يقول:

ومن قابل التوب التمستُ مواهباً

من العفوِ والإحسانِ محو سقامــي

أعِنِّي على الشكرانِ واقْبَلْ إنابتي

وبالفضلِ أدْخِلْني رياضَ سلامــي

لأفرحَ بالفضلِ العظيمِ وبالرضــــا

وبالعفوِ والغفرانِ والإنعـــــــــــام

بفضلِك فرِّحْنِي وبالخيرِ والشفـــا

وجدِّدْ لِيَ التوفيقَ في استعصـــام

استحضار اليوم الآخر وذكر أوصافه:

   ولأن العبد يقع في معصية الله تعالى بنسيانه لليوم الآخر؛ فإن الإمام يطالبنا أن نستحضر ذلك اليوم ونذكر أحداثه - وذلك عند تفسيره لقوله تعالى:"مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ" - فالمراد به يوم القيامة: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ("المطففين:6")يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ( "الانفطار:19" )الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ( "غافر:17" )يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ( "المائدة:19" (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ"إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) "الشعراء:88-89".

   ففي يوم الدين تتميز فيه المراتب، وتنكشف الحقيقة على ما هي عليه، فتظهر الربوبية بأجلى معانيها من الكبرياء والعظمة والجلال ماحقة لكل حقيقة غيرها، ولم يبق إلا الحيُّ القيومُ، فيقول الحقُّ تنزه وتعالى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) "غافر:16" إظهارا لعظمته وتفريده بالقوة والقدرة، ثم يجيب نفسَه بنفسِه: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).

   فإذا شاء سبحانه أن يعيد النشأة الأخرى أمر السماء أن تمطر ماءً كمنىّ الرجال أربعين سنة حتى تذوب فتصير كالعجينة، فيأمر سبحانه وتعالى أربع رياح عاصفة تعتقم الأرض من جهاتها الأربع فترجها رجًّا، وتدكها دكًّا، حتى تصير الجبال كثيبًا مهيلاً، وتقوى صدمات الرياح فتجعل الجبال هباءً منثورًا- وهي ما نعرف صلابة وقوة- فكيف بالأرض؟!.

   ويُوجِد سبحانه في كل ذرة من ذرات الهيكل الإنساني قوة جاذبية تجمع بعضها ببعض لشدة رجع الأرض ودكها، حتى إذا تكونت الأجساد؛ وصارت الأمم أطوارًا طبقة فوق طبقة؛ أسكن سبحانه الرياح وأعادها إلى مهابها، ثم أمر بالنفخة الثانية، فتفيق الأرواح من صعقها وتهب كالجراد المنتشر، كل رُوح تسارع إلى بيتها الذي سكنت فيه حياتها الدنيا؛وهو جسمها.

   وهذه هي كيفية النشأة الأخرى، وهي أشبه بالنشأة الأولى لآدم عليه السلام، وليست كالنشأة الأولى لأبنائه تحتاج إلى إمناء وحمل ووضع ورضاع، فإن لكل نشأة أسبابًا وضعها سبحانه.

علينا أن نُسند التوفيقَ الله تعالى وحده:

      وفي إشارةٍ إلى قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) يعلّمنا الإمام أن نُسنِدَ التوفيقَ في القول والعمل والحال إلى الله تعالى وحده؛ فيقول نظما في إحدى قصائده:

فلا أنا في ذكري له كنتُ ذاكــــرا

ولكنني المذكورُ منه مؤصـــــــــــــلا

وحالَ صلاتي لستُ إلا بِهِ لَـــــهُ

أُصَلِّي؛ ولولاه لما كنتُ فاعـــــــــــلا

محاني به، وبه وجودي ونشأتي

وصرتُ به، لا بي، مقاميَ قد عـَـــلا

من الطين بدئي، ثم بدء حقيقتي

فمن قبل كُنْ، فَافْهَمْ، رقيتَ إلى العُلا

ولم أكُ شيئا فاقرأنْهَا مسلِّمــــــا

وفي (التِّينِ) فاقرأ آيَ بدئي مرتـــــلا

   و(التِّين) هنا إشارة إلى ما بيّنه الله تعالى من حقيقة بدء الإنسان في سورة التين.

العبد لابد أن يقطع المسافات بينه وبين ربه سبحانه:

   وعند تناول بيان قوله تعالى: (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) بَيَّن رضى الله عنه  أن الصراط، والطريق، والسبيل، والمنهج، والمنهاج، والشارع، والشرعة، والشريعة: ألفاظ مترادفة لما يوصل إلى المقصود من المكان المضروب للسير فيها، بشرط أن يكون أقرب من غيره وأسلم.

   وفي هذا إشارة إلى أن المسافر إلى الله تعالى لابد وأن يقطع المسافات بينه وبين ربه، وتلك المسافات هي: تلقى العقيدة الحقة من العلماء بالله، ومجاهدة النفس لتزكيتها لتتجمل بالأخلاق الفاضلة، ورياضة النفس لتراقب ربها بحسن معاملة الخلق ابتغاء مرضاة الحق جل جلاله، وتطهير القلب بالرياضة ليكون بيتًا معمورًا بمشاهدة سواطع العظمة ولوامع الجلال رهبة وخشية، وبأنوار الجمال والبهاء رجاء وأنسًا وحبًا، والتمسك بآراء أهل اليقين ومذاهب أهل التمكين، (غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ) ممن بَدَّلوا نعمة الله كفرًا؛ وهم اليهود (وَلاَ الضَّالِّينَ) ممن ضلوا السبيل فجعلوا لله نِدًّا أو ولدًا أو شبيهًا أو شريكًا؛ وهم النصارى.

   والفاتحة كنز التوحيد، وسر الوصول إلى الله تعالى، وهي الصلاة، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم.

   عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: إني قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" قال اللهُ: حمدني عبدي، وإذا قال: "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، قال اللهُ: أثني عليَّ عبدي، وإذا قال: "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ"، قال: مجَّدني عبدي، وإذا قال: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" قال: هذا بينى وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وإذا قال: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ": قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) "رواه أحمد ومسلم وغيرهما"