حديث شريف

04/07/2021
شارك المقالة:

إن تقرب العبد إلى ربه يكون بأداء الفرائض التى أوجبها، وبفعل الخيرات التى يحبها ، وتقرب الحق إلى عبده يكون بمعونته وتوفيقه وهدايته ، فإذا تقرب العبد إليه بالبر وذاق حقيقة هذا التقرب انتقل منه إلى تقرب الذراع ؛ فيجد ذوق تقرب الرب إليه باعاً ، فإذا ذاق حلاوة هذا القرب الثانى أسرع المشى حينئذ إلى ربه ، فيذوق حلاوة إتيانه إليه هرولة .

 فالحديث يشير إلى أنه إذا هرول عبده شوقاً إليه سبحانه ؛ كان قرب حبيبه منه فوق هرولة العبد إليه ، فإما أن يكون قد أمسك عن ذلك لعظيم شاهد الجزاء ؛ أو لأنه يدخل فى الجزاء الذى لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر ، فعلى قدر ما تبذل منك متقربا إلى ربك يتقرب إليك بأكثر منه وأعظم .

 وعلى هذا فلازم هذا التقرب المذكور فى مراتبه ؛ أى من تقرب بروحه وجميع قواه إلى حبيبه ؛ تقرب الرب منه سبحانه بنفسه فى مقابلة تقرب عبده إليه .

وليس القرب فى هذه المراتب كلها قرب مسافة وحماسة حسية ؛ بل هو قرب حقيقى ، والحق سبحانه فوق سمواته على عرشه ، والعبد على تراب العبودية ذلاً وانكساراً ، وهو سر السلوك .

 وحقيقة الوصول الذى يدندن حوله العباد والزهاد ، وحقيقة هذا التقرب أن تفنى بمراده عن مرادك وهواك وبما فيه  عن حظك ، بل يصير ذلك هو مجموع حظك وهواك ، وقد عرفت أن من تقرب إلى حبيبه بشئ من الأشياء جوزى على ذلك بقرب هو أضعافه ، وعرفت أن أعلى أنواع التقرب تقرب العبد بجملته بظاهره وباطنه وبوجوده إلى حبيبه ، فمن فعل ذلك فقد تقرب بكله ، ولم تبق منه بقية لغير حبيبه .

وإذا كان المتقرب إليه بالأعمال يعطى أضعاف أضعاف ما تقرب به ؛ فما الظن بمن تقرب إليه بروحه وجميع إرادته وهمته وأقواله وأفعاله ؟

وعلى هذا فكما جاء لحبيبه بنفسه فإنه أهل أن يجاد عليه بأن يكون ربه سبحانه هو حظه ونصيبه ، عوضاً عن كل شئ - جزاءً وفاقاً - فإن الجزاء من جنس العمل ، وشواهد هذا كثيرة :

  • منها قوله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق :2 - 3] ففرق بين الجزائين كما ترى ، وجعل جزاء المتوكل عليه كونه سبحانه حسبه وكافيه .
  • ومنها أن الشهيد لما بذل حياته لله أعاضه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده فى محل قربه وكرامته ، فمن بذل لله شيئا أعاضه الله خيرا منه .
  • ومنها قوله تعالى : ((فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ)[البقرة:152] .
  •  ومنها قوله فى الحديث القدسى : (من ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى ، ومن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير من ملئه)[الطبرانى] .

فالعبد لا يزال رابحاً على ربه أفضل مما قدم له ، وهذا المتقرب بقلبه وروحه وعمله وقوله يفتح عليه ربه بحياة طيبة وسعادة غامرة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع السعادة والسرور ، كحياة الجنين فى بطن أمه بالنسبة لدار الشقاء والفناء ، فلا عين إلا عين المحبين الذين قرت أعينهم بحبيبهم وسكنت نفوسهم إليه ، واطمأنت قلوبهم به ، وتنعموا بحبه واستأنسوا بقربه ، ففى القلب فاقة لا يسدها إلا محبة الله والإقبال عليه ، والإنابة إليه ، ومن لم يظفر بلذة القرب من ربه فحياته كلها هموم وآلام وغموم ، وكفى أهل القرب والإيمان سعادة أنهم فى الآخرة كما أخبر عنهم ربهم بقوله : (فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ)[الواقعة:88- 89] يرافقون الرفيق الأعلى ، ويفارقون الرفيق المؤذى المنكر الذى تنكر رؤيته ، وتنغص مشاهدته - فضلا عن مخالطته - إلى الرفيق الأعلى : (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا)[النساء : 69] فى جوار الرب الرحمن الرحيم ، ولو لم يكن فى الموت من الخير إلا أنه باب الدخول فى دار السعادة والهناء وجسر يعبر منه إليها لكفى به تحفة المؤمن .

فالإجتهاد فى هذا العمر القصير والمدة القليلة والسعى والكدح وتحمل الأثقال إنما هو لهذه الحياة الدائمة ، وهى يقظة وما قبلها من الدنيا نوم ، وهى عين وما قبلها أثر ، وهى حياة جامعة حيث لا يتعذر مطلوب ، ولا يفقد محبوب حيث الطمأنينة والراحة والبهجة والسرور .

حصل العلم بهذه الحياة إنما وصل إلينا بخير إلهى على يد أكمل الخلق وأعلمهم صلى الله عليه وآله وسلم ، فقامت شواهدها فى قلوب أهل  الإيمان ، حتى صارت لهم بمنزلة العيان ، ففرت نفوسهم من هذا الظل الزائل ، والخيل المضمحل ، والعيش الفانى ، رغبة فى هذه الحياة ، وشوقاً إلى ذلك الملكوت ، ووجداً بهذا السرور ، وطمعاً فى هذا النسيم الوارد من محل النعيم المقيم ، ومن سافر إلى بلد العدل والأمن والسرور ؛ صبر فى طريقه على كل مشقة ، وفارق المتخلفين أحوج ما كان إليهم ، وأجاب المنادى إذا ناداه حىّ على الفلاح ، وواصل السير بالغدو والرواح .

 فالمؤمن دائم الإقبال على مولاه ، يتقرب إليه بما يحبه ويرضاه ، فهو إلى نعيم دائم ، وخلود متصل ، ومقام كريم ، وجنة عرضها السموات والأرض فى جوار رب العالمين وأرحم الراحمين ، وإنما يتقرب العبد إلى ربه لأنه هو الذى يجيب المضطر إذا دعاه ، ويغيث الملهوف إذا ناداه ، ويكشف السوء ويفرج الكربات ، ويقيل العثرات الذى يهدى خلقه فى ظلمات البر والبحر ، ويرسل الرياح بشراً بين يدى رحمته الذى يبدأ الخلق ثم يعيده ، ويرزق من فى السموات والأرض من خلقه وعبيده ، المستعان به على كل نائبة ، والمعهود منه برا وكرامة .

يقبل العبد على ربه لأنه الذى عنت له الوجوه ، وخشعت له الأصوات ، وسبّحت بحمده الأرض والسموات ، الذى لا تسكن الأرواح إلا بحبه ، ولا يطمئن القلب إلا بذكره ، ولا تزكوا العقول إلا بمعرفته ، ولا يدرك النجاح إلا بتوفيقه ، ولا تحيا القلوب إلا بنسيم لطفه وقربه ، ولا يقع أمر إلا بإذنه ، ولا يفتتح أمر إلا باسمه ، ولا يتم إلا بحمده ، ولا يدرك مأمول إلا بتيسيره ، ولا تنال سعادة إلا بطاعته ، ولا طابت الجنة إلا بسماع خطابه ورؤيته ، الذى وسع كل شئ رحمة وعلماً .

 والحق سبحانه يتقرب لعبده ، فيدعوه إلى دار كرامته ، لا تعلم نفس حسنها وبهاءها ، فيها ما لا عين رأت ، ولا أ ذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، فهى الجامعة لجميع أنواع الأفراح والمسرات ، الخالية من جميع المنكرات والمنقصات ، ريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، وزوجة حسناء ، وفاكهة نضيجة .

ومن تقرب إلى ربه بالإيمان والعمل الصالح فإنه يحيا حياة طيبة مباركة ، فى دنيا الناس ، أما حياتهم فى البرزخ - وقد تخلصوا من سجن الدنيا وضيقها - فهم فى روضة من رياض الجنة ، وأما حياتهم فى دار النعيم المقيم الذى لا يزول يتمتعون بالنظر إلى وجه ربهم بكرة وعشيا ، ويسمعون خطابه المقدس ، وعلى قدر إيمان العبد يكون إقباله على ربه ، فإن الإيمان هو روح الأعمال ، وهو الباعث عليها ، والآمر بأحسنها ، والناهى عن أقبحها ، وعلى قدر قوة الإيمان يكون أمره ونهيه لصاحبه ، قال تعالى : (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)[البقرة : 93] .

أما ضعف الإيمان فإنه نتيجة الغفلة ، والغفلة نوم القلب ، ورقدة جهالته ، ولهذا تجد كثيراً من الأيقاظ فى الحس نياما فى الواقع ، تحسبهم أيقاظاً وهم رقود ، ضد حال من يكون يقظان القلب وهو نائم ، فإن القلب إذا دام إقباله على مقلبه سبحانه لا ينام إذا نام البدن ، وكمال هذا الأمر كان لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم ومن أحب الله قلبه بمحبته واتباع رسالته ، وسعادة الآخرة إنما هى مقتبسه من الحياة الزائلة ، فأنت قد تشعل سراجك من سراج آخر قد أوشك على الانطفاء ، فيضىء الثانى غاية الإضاءة ، وينطفئ الأول ، والمقتبس لحياته الدائمة من حياته الفانية ، إنما ينتقل من دار الفناء إلى دار البقاء ، قد توسط الموت بين الدارين ، فهو قنطرة لا يعبر إلى تلك الدار إلا عليها ، وباب لا يدخل إليها إلا منه ، فهما حياتان فى دارين بينهما موت فعلى قدر نور الإيمان فى هذه الدار يكون نور العبد فى تلك الدار ، وعلى قدر حياة قلبه وتقربه إلى ربه تكون حياته هناك ، وتقرب الحق إليه بفضله ورحمته ، ونور الإقبال على الله لا ينقطع أبداً ، بل يضيئ للعبد فى برزخه ، وفى موقف القيامة ، وعلى الصراط ، فلا يطفأ النور ولا يفارق صاحبه ، ويطفأ نور الشمس ، وهذا النور لا يطفأ ، وتبطل الحياة المحسوسة ، وهذه الحياة لا تبطل .

فقرب العبد من ربه هو حياة المحب مع حبيبه ، الذى لا قوام لقلب العبد وروحه إلا به ، ولا غنى له عنه طرفة عين ، ولا قرة لعينه ، ولا طمأنينة لقلبه ، ولا سكون لروحه إلا به فهو أحوج إليه من سمعه وبصره وقوته بل ومن حياته ، فحياته موقوفة على قربه وحبه وإقباله على ربه ، كما أن نعيم القلب والروح أعظم من النعيم بالأكل والشرب ، ولهذا جمع الله سبحانه لأوليائه بين النعيمين فى قوله : (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ)[يونس :26] فالحسنى الجنة ، والزيادة رؤية وجهه الكريم فى جنات عدن ،كما جمع لأعدائه بين العذابين فى قوله : (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ)[المطففين : 15 -16] .

أما غفلة العبد فهى نوم القلب عن طلب سعادة الآخرة ، وهى حجاب عليه ، فإن كشف هذا الحجاب بالذكر ، وإلا تكاثف حتى يصير حجاب ولعب واشتغال بما لا يفيد ، فإن بادر إلى كشفه ، وإلا تكاثف حتى يصير حجاب معاص وذنوب تبعده عن الله ، ولغلظ حجابه وكثافته وظلمة قلبه وسواده وقسوته لا يرى حقائق الإيمان ، ويتمكن منه الشيطان ، يعده ويمنيه زو النفس الأمارة بالسوء تهوى وتشتهى ، وسلطان الطبع قد ظفر بسلطان الإيمان فأسره وسجنه إن لم يهلكه ، فإياك أن تؤتى من قبلك .

والعبد يحيا بين ثلاثة أنفاس :

  • نفس الخوف ، ومصدره مطالعة الوعيد ، وما أعد الله لمن آثر الدنيا على الآخرة ، والمخلوق على الخالق ، والهوى على الهدى ، والغىّ على الرشاد .
  • ونفس الرجاء ، ومصدره مطالعة الوعد ، وحسن الظن بالرب ، وما أعده الله لمن آثر الله ورسوله والدار الآخرة ، وحكم الهدى على الهوى .
  • ونفس المحبة ، مصدره مطالعة الأسماء والصفات ، ومشاهدة النعماء والآلاء .

 فإذا ذكر ذنوبه تنفس بالخوف ، وإذا ذكر رحمة ربه وسعة مغفرته وعفوه تنفس بالرجاء ، وإذا ذكر جماله وإحسانه وكماله وإنعامه تنفس بالحب ، فليزن العبد إيمانه بهذه الأنفاس الثلاثة ، ليعلم ما معه من الإيمان ، وقد قال الإمام المجدد السيد محمد ماضى أبو العزائم : (إذا أردت أن تعرف عند الله مقامك فانظر فيما أقامك ، ومتى أقامك أعانك )) وقال أيضا :

السالكون طريق الخوف أبطال

والواصلون بنور الفضل أبدال

للســـــــالكين جهـــاد دائم ولهم

خوف به سوى محبوبهم مالــوا

زهدوا ففازوا بتوفيق وصح لهم

لصدقهم نور ما عملوا وما قالوا

هم فى جهاد وفى  نسك   لأنهم

على السوابق من هاماتهم جالوا

سهروا الليالى فى  ذكر  يؤرقهم

خوف الجلال فلما صابروا نالوا

نالوا الهداية والإقبال فانشرحت

صدورهم لمن يكن للقوم  أثقال

خفوا فخافوا فكان الخوف داعيهم

 إلى الجنان وفى الجنّات  إقبال

أنســـوا به حيث كانو فى معيته

لم تلههم جنة نفس  ولا  مال

رأوا   جمالا   عليا  عن منازلته

يخفى عن العقل والتوضيح إجمال

من ثراث مجلة "الإسلام وطن"

السيد عبد الحميد الصيفى

العدد (20) السنة الثانية ،ربيع ثانى    1409 ديسمبر 1988م

لماذا الطريقة العزمية (24)

حاجة الإنسان إلى الإسلام: لقد خلق الله تعالى الإنسان وفضَّله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وجعل سبحانه الإسلامَ منهجَ حياةٍ رفع اللهُ به الإنسانَ بما كشف له من أسرار الغيب عن حكمة إيجاده وسر إمداده, لأنه لؤلؤة العقد, وخليفة عن ربه, وسخر له جميع ما في سماواته وأرضه؛ قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ )"الجاثية:13"، حتى بلغ الإنسان منزلة بالإسلام يكون فيها مع الله سبحانه والله تبارك وتعالى معه، وجعل كل فرد من المسلمين كعضو من الجسد, قال صلى الله عليه وآله وسلم: (مَثَلُ المؤمِنِينَ في تَعَاطُفِهِمْ وتراحُمِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ الوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ اشْتَكَى كُلُّهُ) حتى ظهر سر قول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)"الحجرات:10". ولقد جاء الإسلام دينا عالميا تتسع آفاقه للناس جميعا، ومن ثم جاءت تعاليمه لتشمل ما في الناس من قوة وضعف، وفطر وميول، وإمكانيات وطاقات.