قصة سيدنا عيسى عليه السلام (الحلقة الثانية عشر)

04/09/2021
شارك المقالة:

 

تابع ما أورده الإمام أبو العزائم بيانا لحقيقة النصرانية ودعاتها فى كتابه (وسائل إظهار الحق):

إثبات البشائر لسيدنا محمد فى الكتب السماوية :

ورد فى إنجيل يحيى من قوله : إن الذى يأتى من بعدى يكون قدامى لم يرد فى التوارة منه شىء . وها هى التوارة بين أيدينا ، وإن صح بالسند الصحيح الذى يؤدى إلى العلم اليقينى من طرقه العقلية ، فالذى يأتى بعده ليس المسيح ، لأن المسيح لم يأت بعده لأنه أتى فى زمنه مصاحبا له ، والذى يأتى بعده بلفظ الفعل المضارع الدال على الاستقبال ولفظ بعد الدال على طول الزمن هو الرسول الذى بشر به إبراهيم عليه السلام  وبشرت به أسفار التوارة هو المسمى ( مسيا ) ، يعنى الذى يحمده الناس أجمعون ( محمد ) عليه الصلاة والسلام . خصوصا وأن يوحنا المعمدان هذا طال عمره بعد رفع المسيح عليه السلام إلى السماء كما يقول النصارى ، لأنه مثبوت عندهم أنه أرسل رسالة ثانية بنص الرؤيا التى كتبوها فى ذيل التوارة المشهورة التى رأى فيها أن الرب خروف وقتل ، فكأنه بعد المسيح ، ولم يكن المسيح بعده ، وهو يقول : الذى يأتى بعدى .

تلك المباحث الحقيقية برهان حق على أن تلك البشائر التى فى التوارة والإنجيل ، ولم تكن بالمسيح عليه السلام  ، وإنما هى بالرسول الذى يأتى بعد المسيح ويصير قدام الكل ، لأنه يكشف للعالم أجمع طريق السعادة الأبدية والنجاة السرمدية ، التى لا تكون إلا بالتوحيد الحقيقى والعبادة الخالصة ، والأخلاق الطاهرة والمعاملة الفاضلة . ولم يأت رسول من الرسل قبله بتلك المعانى كلها مجموعة فى عقد واحد مبينة واضحة كالشمس فى رابعة النهار . وأنه عبد ورسول لم تختلف القلوب ولا العقول ولا الألسنة فى  دينه عن الاعتقاد أنه عبد مرسل من قبل الواحد الأحد ، المنزه عن الوالد والولد والنظير والمثيل . وليست البشائر المصرحة باسمه ومعناه بقليلة . اقرأ دعوة الخليل لولده إسماعيل ، واقرأ بشرى موسى بأنه يخرج من بنى عمنا كذا وكذا . ومن بنو عمه ؟ هم بنو إسماعيل ، واقرأ واقرأ واقرأ إن شئت فى التوارة . أفعمت الكتب السماوية بتلك الحقائق ، ولكن الإنسان يعميه التعصب للآباء والميل إلى الأهواء والطمع فى الرياسة والجاه عن اتباع الحق والعمل به ، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين .

هذه الكلمة ليست كلمة المسيح :

هذه الكلمة  التى قالها يوحنا التى هى باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد ليست هى كلمة المسيح ، ولكنها كلمة رسول مثله بعثه الله كما بعث المسيح . وقد كان فى عصر المسيح رسل كثيرون منهم زكريا وابنه وغيرهما وكلهم كانوا يدعون إلى العمل بشريعة موسى عليه السلام  ، ويبينون المبهم ، ويفصلون المجمل . وقد يأمرون بما ليس فى التوارة أو ينهون عما هو فيها من الأحكام التى اقتضت الحكمة الإلهية نسخها ، أو اقتضت تجديدها ، لأنهم مكملون لا مشرعون كسيدنا داود وسليمان عليهما السلام .

فإذا كانت تلك الكلمة كلمة يوحنا المعمدان وهو رسول كالمسيح لا يقل عنه بشىء لأن المعجزة هى حملة ووضعه وإعطاؤه الرسالة صبيا جعلته لا يقل عن المسيح عليه السلام  .

و على فرض صحة تلك الكلمة عنه فكأنه يقول : أنا ابن الله . لا يقول: المسيح ابن الله . لأن هذا رسول وذاك رسول ، لأن يوحنا رسول والمسيح رسول ، والرسل لا يأتى رسولا من قبل رسول ، وإنما من قبل الله تعالى .و من يقول إن الرسول يأتى من قبل الرسول فقد أخطأ وجهل ، وإنما الذى يرسله الرسول إلى الناس يقال له مندوب من قبل فلان أو خليفة فلان أو تلميذة أو حوارية أو وال من قبله ، ولا يقال رسول بهذا الإطلاق إلا لمن أرسله الله تعالى . إذا كان يوحنا رسولا من قبل الله تعالى فكلامه خاص بنفسه.

و قد أخبر الرسول داود عليه السلام  فى المزمور الثانى الذى نسبه إليه اليهود أنه ابن الله قال فى الآية السابعة : إنى أخبر من جهة قضاء الرب قال لى : أنت ابنى أنا اليوم ولدتك ، اسألنى فأعطيك الأمم ميراثا لك وأقاصى الأرض ملكا لك تحطمهم بقضيب من حديد مثل إناء خزف تكسره . فداود عليه السلام  يقول : أنا ابن الرب كما أخبر عنه اليهود ، ثم يدعون أن عزيزا ابن الرب والنصارى يقولون إن المسيح ابن الرب الوحيد ولم يقل ذلك المسيح نفسه ، وإذا كانت الحقيقة خفية والبرهان مفقودا كيف تظهر ؟و الأولى أن يقف العقل موقفا يدافع عن الحقيقة حتى يقررها بطرقه الصحيحة .قال يوحنا فى شهادته : إنى أنا لست النور بل جئت أشهد للنور ، النور الحقيقى الذى ينير كل إنسان آت إلى العالم وخاصته لم تقبله ، وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله . هذه هى شهادة يوحنا ، ومعلوم أن المسيح عليه السلام  كان معه فى زمن واحد ، وأنه عاش بعد المسيح كما يقولون ، وأن المسيح لم يعط من قبلوه سلطانا ، لأنه كما يقولون قدر على نفسه الخزى والذل والهوان ليخلص العالم من خطيئة آدم . وخلص العالم من خطيئة آدم بصلبه ، فإذا كان المسيح أصابه الخزى والذل والهوان  كما يقولون ، وصلب كما يقولون ، فكيف يعطى من قبلوه سلطانا وهو لم ينل هذا السلطان ؟ بل الذين قبلوه أصابهم من الذل والخزى والهوان أكثر مما أصابه بالضرورة ، وكيف يعيش الجسد بعد القلب ؟ .

و أما الذى أباه قومه وقبله غير قومه وأعطاهم سلطانا حقيقيا فهو محمد﴿صلي الله عليه وسلم وآله﴾ ، لأن أعمامه عادوه وآذوه حتى أجمع بنو هاشم على معاداته إلا ولد صغير هو على بن أبى طالب عليه السلام، ورجل هو حمزة ، وقبله رجل رومى ( صهيب ) ، وآخر فارسى ( سلمان ) ، وآخر حبشى ( بلال ) وآخر نوبى ( حارثه ) ، وأبو رافع . وكل هؤلاء بلغوا من السلطان مبلغا حتى صارت تخشع القلوب لذكراهم، وتنحنى الرؤوس لمشاهدتهم ، ويخرج الخليفة من داره لملاقاتهم. قبله رجل من تيم ، وآخر من عدى جماعة من الأوس والخزرج . فما مضى زمن يسير حتى أصبحوا ملوك الأرض وسادة العالم .

هذا الرسول حقا هو الذى أعطى من قبله السلطان ، وجعل من اتبعه ابناء لله تعالى  كما قال يوحنا ، بمعنى أن العصبية الجاهلية بالإنسان صارت تحت النعال ، فصار نسب الله هو النسب ، وحسب الله هو الحسب ، وصار المسلم الكامل الإسلام لا نسب له ولا حسب له الشرف بالتقوى ، والعز باليقين والتجمل بالخشوع ، والحب والرغبة فى الله ومن الله ولله . انظر إلى كلمة يوحنا فى إنجيله : فى البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله ، وكان الكلمة الله ، هذا كان فى البدء . تأمل فى تلك الكلمة بعين البصير الناقد ، ثم إسأل عقلك قائلا له : هل تقبل تلك الكلمة مع ما فيها من التناقض والتباين الكلى ؟ما هذا الخلاف ؟ كلمة كانت عند الله ، ثم كلمة هى الله ، مع أن سفر التكوين يقول فى البدء : خلق الله السموات والأرض وكانت الأرض خربة وخاليه ، وعلى وجه القمر ظلمة ، وروح الله يرف على وجه المياة ، وقال الله ليكن نورا فكان نورا بين اصحاح سفر التكوين التوارة وبين كلمة يوحنا تباين ، يفيد أنه ليس بكلام الله ، ولا بكلام رسل الله . لأن سفر التكوين يقول : قال الله ليكن نورا فكان نورا وروح الله يرف على وجه الماء صريح قول القرآن الشريف ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء﴾ ([1]) أيها العقل لم تكن تلك الآيات من الآيات التى يجب فيها التسليم بلا بحث لأنها آيات تكوين ولو أن الأمر من غير الله وغير رسله لاعتقدنا فيه الاختلاف . ولكن إذا جاء من الله سبحانه ومن رسله عليهم الصلاة والسلام يجب أن يكون مطابقا للعقل موافقا له سارئا معه فى طريق واحد .

                         وللحديث بقية بإذن الله تعالى

 

([1]) سورة هود آية 7 .