شارك المقالة:

 

حاجة الإنسان إلى الإسلام:

لقد خلق الله تعالى الإنسان وفضَّله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وجعل سبحانه الإسلامَ منهجَ حياةٍ رفع اللهُ به الإنسانَ بما كشف له من أسرار الغيب عن حكمة إيجاده وسر إمداده, لأنه لؤلؤة العقد, وخليفة عن ربه, وسخر له جميع ما في سماواته وأرضه؛ قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ )"الجاثية:13"، حتى بلغ الإنسان منزلة بالإسلام يكون فيها مع الله سبحانه والله تبارك وتعالى معه، وجعل كل فرد من المسلمين كعضو من الجسد, قال صلى الله عليه وآله وسلم: (مَثَلُ المؤمِنِينَ في تَعَاطُفِهِمْ وتراحُمِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ الوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ اشْتَكَى كُلُّهُ) حتى ظهر سر قول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)"الحجرات:10".

ولقد جاء الإسلام دينا عالميا تتسع آفاقه للناس جميعا، ومن ثم جاءت تعاليمه لتشمل ما في الناس من قوة وضعف، وفطر وميول، وإمكانيات وطاقات.

ولهذا حدثنا القرآن عن مقامات الدعوة: الإسلام والإيمان والإحسان والإيقان، وعن مقام القانتين والعابدين والذاكرين والمحبين والراضين، إنها مقامات في الطريق إلى الله، وإنها درجات للعاملين من عباده المسلمين، ولكل منها بقدر كفاحه وطاقته واجتهاده، وما قُدِّرَ له يُسِّرَ.

بين أهل الحق وأهل الباطل:

ولم تكن الدعوة الإسلامية لتسلم من الأذى والحقد والضلال لصرف الناس عما فيه صلاحهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة، ولا عجب؛ فإبليس خاطب المولى سبحانه فقال: (لَأَقْعُدَنَّ لهُمْ صِرَاطَكَ المـُسْتَقِيم) "الأعراف:16"، فقعد للناس للوصول إلى هذا الهدف الدنيء على مر العصور والأزمان، فسلك كل مسلك ليصور الباطل حقا والحق باطلا ليغرر عباد الله.

والحق هو ما تشهد به القلوب التي لم تفسد أصلاً، وتطمئن إليه النفوس التي لم تدنس، وتطيب به الحياة التي لم ينحرف أهلها عن الصراط المستقم.

وأهل الحق هم الذين عرفوا الحق وعملوا به في خاصة أنفسهم، ثم دعوا غيرهم إلى ما كملوا به أنفسهم، قال تعالى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) "الأعراف:181".

والباطل هو مظهر القلوب المريضة التي كفرت، والنفوس الأمارة بالسوء التي ضلت، تطيب به حياة البيئة الفاسدة، والشهوة الجامحة، والهوى البين.

وأهل الباطل هم الذين ابتلي اللهُ عبادَه المؤمنين بهم في كل زمان وفي كل مكان، يكفرون بالحق ويصدون عن سبيله، ويفتنون الناس فيه، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) "الحج:8-9".

يقود هذا الباطل فريق أغلق قلبه وأصم أذنه، وأغمض عينيه فلم يرض سماعاً، ولم يقبل أن يرى ذلك النور الوضاء، نور الإسلام الذي يبدد غياهب الشرك، ويمحو برحمته مداد الظلم، وخيوط الظلام والضلال الجاثمة على الصدور، وصدق الله العظيم حيث يقول: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) "الأعراف:179"

الخوارج يَدْعُون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء:

وقد عرف التاريخ الإسلامى حركات هدامة، وجماعات إرهابية، كانت ترفع شعارات الدين لتخفى خلفها أغراضها الخبيثة وأهدافها المدمرة، وتصنع رموزا غامضة مثيرة، وطقوسا وشعائر يلفها الضباب، كانت هذه الجماعات تعمل في الخفاء، وأحيانا تظهر على سطح الأحداث، ولم يروع التاريخ كما روع التاريخ الإسلامي بالجرائم والاغتيالات التي قامت بها هذه الجماعات الآثمة .

ومن قبل تنبأ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بالخوارج، فحينما كان صلى الله عليه وآله وسلم يقسم غنائم هوازن يوم حنين إذ جاءه رجل من تميم مقلص الثياب ذو شيماء، بين عينيه أثر السجود فقال: اعدل يارسول الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ويلكَ ومَن يعدِل إذا لم أعدِل؟، قد خبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدِل) ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يوشكُ أن يأتي قومٌ مثلُ هذا يحسنون القِيلَ ويسيئون الفعلَ، هم شِرَارُ الخلقِ والخليقةِ)، ثم وصف صلى الله عليه وآله وسلم صلتهم بالقرآن فقال: (يَدْعُونَ إلى كتابِ اللهِ وليسوا منه في شىءٍ، يقرأون القــرآنَ لا يجاوز تراقِيَهم، يحسبونَهُ لهم وهو عليهم) ثم كشف صلى الله عليه وآله وسلم النقاب عن عبادتهم المغشوشة فقال: (ليسَ قراءتُكــم إلى قراءتِهم بشيءٍ، ولا صلاتُكم إلى صلاتِهم بشيءٍ، ولا صيامُكم إلى صيامِهم بشيءٍ)، ثم أزاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم الستار عن أهدافهم فقال: (يمرقونَ من الإسلامِ كما يمرقُ السهمُ من الرَّمِيَّة) ثم أعطانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفا مجسما لسيماهم فقال: (محَلِّقينَ رُؤُوسَهم وشَوارِبَهُم، أُزُرُهُمْ إلى أنصافِ سُوقِهِمْ)، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم علامتهم المميزة فقال: (يقتلونَ أهلَ الإسلامِ ويَدَعُونَ أهلَ الأوثانِ)، ثم طالبنا صلى الله عليه وآله وسلم إذا لقيناهم أن نقاتلهم فقال: (فمَن لَقِيَهُم فَلْيُقَاتِلْهُم، فمَن قتَلَهُم فلَهُ أفضلُ الأجرِ، ومَن قَتَلُوهُ فَلَهُ الشَّهَادَة)، قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأشهد أن عليًّا بن أبي طالب عليه السلام قاتلهم وأنا معه.

نماذج من الخوارج في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

من الخوارج فى عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أبو عامر الفاسق الذي انتكس بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وصارت فيها للإسلام كلمة عالية، فانسلخ من آيات الله، والتهم قلبه الحقد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبارزه بالعداوة والبغضاء، واتخذ سبيله إلى المشركين بمكة لاستثارتهم إلى حربه، حتى تم له ما أراد بغزوة أُحُد التي أصاب المسلمين فيها ما أصابهم، وانقلب هائما على وجهه في القبائل يغريهم بقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ومن الشام كتب إلى المنافقين من أنصاره أن يستعدوا ويبنوا له مسجدا، لأنه سيأتيهم بجنود قيصر لحرب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وقد نفذ المنافقون مخطط أبي عامر الفاسق فبنوا المسجد الضرار تحت شعار التجمع لعبادة الله، والمناداة فيها بأن محمداً رسول الله، وتحت هذا الشعار يعملون للكفر بالله ورسوله، والإضرار بالإسلام والمسلمين وتفريق كلمتهم، فأمر المولى سبحانه وتعالى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهدمه بعد أن كشف حقيقتهم في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ) "التوبة:107".

ومن الخوارج في عصر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مسيلمة الكذاب الذي حذق فنون السحر والشعوذة لاستهواء الرجال والنساء باستغوائهم، وكان يصانع كل أحد ويتألفه،  ووضع مسيلمة عن قومه الصلاة، وأحل لهم الخمر والزنا، فأجمعت بنو حنيفة على الردة، وأعلن مسيلمة أن الوحي ينزل عليه كما ينزل على محمد، وأخذ يرسل سجعات على نحو ما تنزل الآيات فصدقه قومه وآمنوا به، فتصدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له وكشف بالحجة كذبه وحقر شأنه، حتى أخذه الله تعالى على يد أبي بكر في حرب الردة.

نماذج من الخوارج في عهد الخلفاء الراشدين:

فلما كان عصر الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ظهرت نماذج جديدة من الخوارج كالأسود بن عنترة العنسي، وخارجة بن حذيفة، وطليحة بن خويلد الأسدي، ومالك بن نويرة.

فأما الأسود بن عنترة العنسي فقد كان كاهنا يقيم بحنوب اليمن، ومشعبذا يصطنع فنونا من الحيل، ويستهوى الجماهير بعباراته، ولقد تنبأ ولقب نفسه: رحمان اليمن؛ كما لقب مسيلمة الكذاب نفسه: رحمان اليمامة، ودانت للأسود العنسي سواحل اليمن إلى عدن، كما دانت له الجبال والبوادي من صنعاء إلى الطائف، ولما استغلظ أمره وأثخن في الأرض أخذه بعض قوه غيلة، ودلتهم زوجته على حجرة نومه فقتلوه.

وأما خارجة بن حذيفة فقد التوى عن الدين، ومنع من منع الزكاة، فخرج أبو بكر في مائة من المهاجرين والأنصار، وتلاحق الناس من خلفه يريدون خارجة بن حصن وأصحابه، فولى هارباً منهزماً هو وأصحابه.

وأما طليحة بن خويلد الأسدي فقد ادعى أنه يشهد أن لا إله الا الله، وأنه نبي مرسل، يأتيه ذو النون، كما كان جبريل يأتي سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، فجهز أبو بكر رضي الله عنه جيشا بقيادة خالد لقتاله ومن ارتد معه، ففر طليحة هاربا إلى الشام، ثم عاد إلى الإسلام حين بلغه أن القبائل التي تبعته قد عادت إلى الدين القيم .

وأما مالك بن نويرة فإنه لما بلغه انتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلي الرفيق الأعلى رد الصدقات من حيث جاءت، فتسارع عليه جمهور قومه وفرحوا بذلك، ولما بلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنه جهز له جيشا بقيادة خالد بن الوليد، فأتى به أسيرا في نفر من قومه فأمر خالد بن الوليد بقتله.

ثم تزايد خطر الخوارج في عصر الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ليُقتل رضي الله عنه نتيجة المخطط الثلاثي الذي جمع بين موتور القومية الفارسية الهرمزان، وحاقد الصليبية جفينة، ومتآمر الصهيونية كعب الأحبار؛ حيث حرض هذا الثلاثي غلاما فارسيا من سبي نهاوند - فيروز الشهير بأبي لؤلؤة - على قتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فقتله غيلة.

فلما كان عصر الخليفة الثالث عثمان بن عفان ظهر الخوارج في شكل جماعات من بلدان عدة، واشتعلت ثورة الخوارج ضد الخليفة عثمان رضي الله عنه، وبدأ منظموها من خوارج الكوفة والبصرة ومصر يعلنون ما كانوا يضمرون، وزحفوا إلى المدينة المنورة وقتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه.

فلما كان عهد الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام نشأ حزب الخوارج - وهو أول حزب سياسي يتكون في تاريخ الإسلام - فور إعلان مكيدة التحكيم بين أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص، وتعالت الهتافات من الخوارج بتكفير الحَكَمَيْن تحت شعار: "لمَ حكمت الرجال؟، لا حُكم إلا لله"، وأصبح الخوارج خطراً على الإمام عليّ عليه السلام أكثر من أعدائه، فاضطر عليه السلام للحرب في جبهتين: جبهة معاوية وجبهة الخوارج.

نماذج أخرى للخوارج حتى عصرنا هذا:

ثم ظهرت أنماط أخرى لحرب الإسلام والمسلمين تزيوا بزي الدين وهم أبعد ما يكونون عنه، كمن سموا أنفسهم الحنابلة أو السلفية الذين ظهروا في القرن الرابع الهجري، حيث زعموا أن جملة آرائهم تنتهي إلى الإمام أحمد بن حنبل، وناقشهم في هذه النسبة بعض فضلاء الحنابلة كالإمام الفقيه الحنبلي الخطيب بن الجوزي، ونفى أن يكون ذلك رأى الإمام أحمد بن حنبل.

ومن الخوارج جماعة الوهابية التي أسسها محمد بن عبد الوهاب لتجديد فكر ابن تيمية الحراني، فجمع أنصاره وأتباعه وحثهم على القتال، وكتب إلى البلدان المجاورة المسلمة أن تقبل دعوته وتدخل في طاعته، وكان يأخذ ممن يطيعه عشر المواشي والنقود والعروض، ومن أبَى غزاه بأنصاره، وقتل الأنفس، ونهب الأموال، وسبى الذراري، فليس أمام أي مسلم إلا الوهابية أو القتل، أو ترمل نسائه وتيتم أولاده، ومن المعلوم أن ابن عبد الوهاب لم يفتح بلدا غير مسلم من الشرق أو الغرب، وإنما كان يغزو ويحارب المسلمين الذين لم يدخلوا في طاعته ودعوته.

ومن الخوارج الجماعات التي تعتبر امتدادا تاريخيا لفكر الخوارج في القرن الرابع عشر الهجري ابتدعها البدعي الباكستاني المودودي، ومنها أيضا الجماعة التبليغية التي تعد إرسالية سياحية لتوهيب المسلمين ابتدعها البدعي الهندى إلياس المولوي.

ومن الخوارج جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا الذي لا يُعرف أصله ولا فصله؛ حتى جزم بعض الكتاب كعباس محمود العقاد أن حسن البنا مشروع صهيوني زرعه اليهود في مصر لخلخلة الجبهة الداخلية وتفتيت الأمة.

ولقد كان الخوارج - وما زالوا - أكثر الفرق الإسلامية حماسا لشذوذهم الفكري، عُرفوا بالتهور والاندفاع الشديد، والاستمساك بظواهر الألفاظ، والاستهداف للمخاطر - بداع أو بدون داع - نتيجة لتعصبهم الأعمى لمبادئهم وأفكارهم.

الأزهر الشريف يتبنى الفكر الوسطي:

ومن جانب آخر نشأ الأزهر الشريف كأول مؤسسة إسلامية عريقة تبنت الفكر الوسطي السمح للإسلام الدين الحنيف، حمى هذا المنهج الوسطي علماء الأزهر وشيوخه من رجال التصوف:

كالشيخ محمد الخراشي أول شيخ للأزهر، والذي ذاع صيته وسمت مكانته بين العامة والخاصة على حد سواء، فكان الحكام يقبلون شفاعته، وكان الطلبة يقبلون على دروسه، وكان العامة يفدون إليه لينالوا من كرمه وعلمه.

والشيخ إبراهيم البرماوي الذي تولى المشيخة بعد الشيخ الخراشي، وخلف مؤلفات في الحديث والفرق والمواريث والتصوف.

والشيخ الصوفى عبد الله الشرقاوي الذي عاصر الحملة الفرنسية على مصر، وقاد الشعب المصري إلى مقاومتها، وهو الذي تولى مشيخة الأزهر بعد وفاة الشيخ أحمد العروسي، وكان له رأي مسموع في الشؤون الدينية والسياسية، وخاض في حياته أحداثا جساما، وقد أعانته نزعته الصوفية على الرفق والتؤدة والتسامح.

والإمام العلامة والشيخ الصوفي عبد الحليم محمود الذي دافع عن الإسلام والمسلمين في كل الأقطار، ولم يقف يوما مكتوف الأيدي أمام قرار جائر من حاكم أو صاحب نفوذ، ودافع عن الأزهر ووسطيته واستقلاله بكل ما أوتي من علم وحكمة وسلطة دينية.

لكن المؤامرات على الأزهر الشريف ورجاله لم تتوقف ولم تهدأ، حتى اعتراه ضعف شديد، وتجرأ عليه الخوارج بشتى أشكالهم من إخوان وسلفية وجماعات، محاولين استنفاذ البقية الباقية من الوسطية الإسلامية، وليحولوا علوم الأزهر من مناهج صوفية سُنِّيَّة وسطية إلى مناهج وهابية خارجية شاذة، ولابد من سرعة التنبه إلى ذلك والعمل على معالجته بكل الطرق الممكنة.

أئمة التصوف يجاهدون في الله حق جهاده:

قيَّضَ اللهُ تعالى لدينه على مر العصور أئمةً يهدون بأمره، ويبينون منهجه، ويجاهدون في الله حق جهاده لا يخشون فيه لومة لائم كما فعل أئمة التصوف:

هذا الإمام الغزالي يكتب إلى "ابن تاشفين" ملك المغرب فيقول له: «إما أن تحمل سيفك في سبيل الله ونجدة إخوانك في الأندلس؛ وإما أن تعتزل إمــارة المسلمين حتى ينهض بحقهم سواك".

والإمام محيي الدين بن عربي شيخ الصوفية الأكبر الذي قال للملك الكامل حينما تهاون في قتال الصليبيين: "إنك دنيء الهمة، والإسلام لن يعترف بأمثالـك، فانهض للقتال، أو نقاتلك كما نقاتلهم".

والعز بن عبد السلام الذي لما أن طغى المماليك في أرض مصر ثار عليهم، وأمر بالقبض على المماليك، وأعلن أنه قد اعتزم بيعهم في سوق الرقيق لأنهم خانوا أمانة المسلمين.

والسيد أحمد البدوي الذي كان له دوره في حرب الصليبيين، وإنقاذ الأسرى من أيدى الأوروبيين.

والصوفي الليبي السيد عمر المختار الذي حارب قوات الغزو الإيطالية في ليبيا لأكثر من عشرين عامًا في عدد كبير من المعارك، إلى أن قُبض عليه من قِبل الجنود الإيطاليين، وأجريت له محاكمة صورية انتهت بإصدار حكم بإعدامه شنقا.

والإمام أبو العزائم الذي قاوم الاستعمار بالسودان ومصر، ووقف ضد إلغاء الخلافة الإسلامية، وحاول الملك فؤاد استمالته ليدعمه كخليفة للمسلمين لكنه أبى، وقال كلمته الخالدة عن فؤاد وأمثاله من أمراء السوء: "إن قوماً فقدوا الإسلامَ في أنفسهم وبيوتهم وشئونهم الخاصة والعامة لأعجز أن يفيضوه على غيرهم ودعوة سواهم إليه، وفاقد الشيء لا يعطيه"، ولما بلغه من سعد زغلول يوماً أن الملك فؤاد يتهدده ويتوعده إن لم يساير الملِك في سياسته، فأمسك الإمامُ بأُذُن سعد زغلول قائلا له: "قل له: أبو العزائم يقول لك: دولة تدول، ومُلْك يزول، وجانب الله يبقى ولا يزول".

لقد كان هؤلاء في المجتمع الإسلامى مصابيح مضيئة بين الخلق في وقت السلم، وفرساناً وقت الحرب، وعلى أيدى هؤلاء الرجال نشأت الطرق الصوفية التي هي في حقيقتها جامعات كبرى للتربية والتعليم والتهذيب، والترجمة عن العقيدة الحقة بالعبادة الخالصة والمعاملة الحسنة والأخلاق الفاضلة.

 

التصوف مذهب قديم ومنهج سابق وفَّق اللهُ له المقربين:

والتصوف مذهب قديم ومنهج سابق وفَّقَ اللهُ له المقربين، وقد تجمل بهذا المذهب كثيرون من الصحابة في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم أهل الصفة من أئمة الصحابة كأبي ذر وصهيب وسلمان وسعيد بن جذيمة والعبادلة وبلال وأبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين.

الصوفية هم حماة الدين وأنصاره وأعوانه:

رجال التصوف هم في كل عصر وزمان أئمة الهدى، وسرج الدلالة، ومصابيح الظلمة، وهم أهل الله الذين فرغت قلوبهم مما سواه، وصفت لطائف قلوبهم فأشرفت على الملكوت الأعلى، وظفروا بأسرار العلوم وحقائق الفهوم، وهم المحدثون الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم، الذين تتلقى قلوبهم عن ربهم، وهم الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يستفتوا قلوبهم لصفائها وإن أفتاهم المفتون، ولكنهم قليل.

والحقيقة أن الصوفية دخلوا مع الفقهاء والمفسرين والمحدثين والمتكلمين في علومهم فسمعوا الحديث، ونظروا في الأحاديث، وقرأوا القرآن واشتغلوا بتدبره، ونظروا في أصول الدين وعلم الفقه، فالبداية فقهية والنهاية صوفية، ومن لم يبلغ من الصوفية مبلغ الفقهاء وأصحاب الحديث ولم يحط بما أحاطوا به فإنه يرجع فيما وقع له من المسائل إلى العالِمين بأحكام أفعال الجوارح الظاهرة، وهم أصحاب العلوم الظاهرة.

والصوفية يُلْزِمُون أنفسَهم بالأخذ بالأغلظ والأشق، ثم إنهم خُصوا مع ذلك بعلوم عالية، وأحوال شريفة، ومقامات رفيعة، فتكلموا في علوم المعاملات، وعيوب النفس، وآفات القلب، وشريف المقامات مثل اليقظة، والتوبة، والزهد، والخشية، والمراقبة، واليقين، والشرك الخفيّ والعوارض، والأذكار، وتجريد التوحيد، ومنازل التفريد، وغير ذلك، فهم حماة الدين وأنصاره وأعوانه، وهم ورثة الأنبياء.

وأول التصوف علم، وأوسطه عمل، وآخره موهبة، فالعلم يكشف عـن المراد، والعمل يعين على المطلوب، والموهبة تبلغ غاية الأمل.

و"التصوف" كما يبين الإمام أبو العزائم في جوامع كلمه:

- الأخذ بالأصول، والترك للفضول، والتشمر للوصول.

- ذِكْر مع اجتماع، ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع.

- حَمْل النفس على الشدائد؛ للريّ من أشرف الموارد.

- مفارقة الأشرار، ومصادقة الأخيار، ومتابعة الآثار والأخبار.

الأمل معقود في البقية الباقية من أئمة الهدى:

إن حال التصوف اليوم هو ما نراه غالبا من الاشتغال بالمظاهر عن الجواهر، وغربة التصوف ناشئة من غربة الإسلام وذهاب العلماء العاملين والدعاة الناصحين، والمشايخ الربانيين, والأمل معقود في هذه البقية الباقية من أئمة الهدي والذين لا تخلو منهم الأرض، ولا يعوز المرء في الظفر بهم إلا صدق القصد باستنفار الهِمَم في طلبهم، كما جاء في شرح ابن عجيبة للحكم العطائية: ]فإن وجدتَ شيخاً مربياً كشف اللهُ لك عن أنواره وأطلعك على خصائص أسراره؛ فأنت قطعاً من أهل القرب بالفعل أو بالإمكان، لقول الشيخ - ابن عطاء الله السكندري رحمه الله -: "سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه"، وإن لم تجد شيخاً مربياً وغرَّك قولُ مَن قال إنه انقطع وجوده؛ فأنت قطعاً من أهل اليمين من عوام المسلمين, هذا الغالب، والنادر لا حكم له، والله تعالى أعلم[.