بيَّنَّا فيما مضى الحكمة من إيجاد الخلق، وأنه سبحانه وتعالى خلق الإنسان وكرَّمه وفضَّله على كثير من خلقه كما قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) "الإسراء:70"، وجعله مؤهلا لظهور معاني أسمائه وصفاته، وأعده لنيل الكمالات الروحانية أو ارتكاب النقائص الشيطانية.
وأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الإنسان الكليّ الذي هو المظهر الأكمل لظهور معاني أسماء الله تعالى وصفاته، وأنه سبحانه وتعالى أمد الإنسان بكل كائن في السماء وطبقاتها وأجوائها، وفي الأرض وأرجائها، وفي الرياح ومهابها، وفي الأفلاك ومداراتها، فما من ذرة في العالم من علوه إلى أسفله، بل من العرش إلى الفرش؛ إلا وفيها خواص لنفع العالم والكون كله لمصالح الناس، قال سبحانه: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) "الجاثية:13".
أطوارُ الإنسان:
قال تعالى: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً) "نوح:13-14"، وقد دل القرآن أن الإنسان لم تكن بدايته في هذه الدنيا أو حتى في رحم أمه، بل للإنسان أطوار يتطور فيها قبل إبرازه في هذا الكون المحسوس، وأطوار أخرى في الكون المحسوس، وجعل سبحانه سبع طرائق لا يصل الواصل إلى الله سبحانه إلا بمجاوزتها، فتلك أطوار يتطور فيها الإنسان طوراً بعد طور بدءا وختما:
أطوار الإنسان قبل إبرازه في الكون المحسوس:
فأما أطواره قبل إبرازه في الكون المحسوس فهي سبعة:
فكان في حضرة العلم.
ثم خصصته الإرادة.
ثم كان حقيقة إنسانية أمام الله تعالى بدليل قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ) "الأعراف:11"؛ والله إنما يخاطب الموجود لا المعدوم.
ثم تعلقت به (كُن) إيجادا للحقيقة الإنسانية أولًا التي هي هو الإنسان قبل بروزه في الأعيان الكونية.
ثم واثق الأنبياء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الميثاق الأعظم.
ثم كان يوم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) "الأعراف:172".
ثم كان الخلاف بين الملائكة وبين الله تعالى.
وكل هذه الأطوار قبل إبرازه في الكون المحسوس.
أطوار الإنسان في الكون المحسوس:
وأما أطوار الإنسان في الكون المحسوس فقد كانت سبعة أيضا: فكان الإنسان طينا، ثم كان نطفة، ثم كان علقة، فمضغة، فعظاما، فكسيت العظام لحما، ثم أنشأه خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين، قال سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) "المؤمنون:12-14".
سبع طرائق لابد أن يتجاوزها الإنسان ليصل إلى ربه سبحانه:
وأما ما جعله فوقنا من طرائق فهي سبع؛ سر قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) "المؤمنون:17"، وقد أوّلها بعض المفسرين بأنها السموات السبع، ويرى الإمام أبو العزائم أنها طرائق سبع لابد أن يتجاوزها الإنسان ليصل إلى ربه وهي: الحظوظ الشهوانية، ثم حب الدنيا، ثم الآخرة، ثم الرؤية، ثم الشهود، ثم الفناء عن كل ذلك بتَرْكه، ثم الفناء عن التَّرْك بتَرْك التَّرْك.
1 - يوم الميثاق الأعظم:
والميثاق الأعظم وهو الطَّوْرُ الخامس من أطوار الإنسان إذ كان ميثاق استجلاء لكمال الأسماء والصفات الإلهية في الحقيقة المصطفوية، فقد خلق الله حبيبه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من نوره، فهو العقل الأول الذي نظر إليه بدءا وخلق لأجله العالم أجمع، وتجلى فيه تجليا عاما حتى شوهدت تلك الأنوار القدسية لأعلى عليين ولعالين، وللملائكة عمار ملكوت الله تعالى.
فكان آدم عليه السلام مظهر شهود تلك المعاني للملائكة، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المظهر الأكمل لشهود تلك الغيوب القدسية للعالم الرُّوحانى العالي والأعلى، فأشهدهم سبحانه وتعالى ظهوره حقا في حقيقة حبيبه ومصطفاه، ليلحظوا بالعيون التي وهبها لهم محاب الله ومراضيه فيما تقتضيه تلك الحقيقة، فصارت بكمال الاستحضار معالم بين أعينهم في طورهم الدنيوي، يمثلونها للأمم، ويرسمون صورتها على جواهر نفوس العالم، وتشرق بهم شمسه صلى الله عليه وآله وسلم.
ففي يوم الميثاق الأعظم واثق اللهُ الأنبياءَ أن يؤمنوا بسيدنا رسول الله ويصدقوه وينصروه؛ وأخذ عليهم العهد والميثاق على ذلك، ثم أشهدهم الجمال العليّ المجليّ في مجلى الذات سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) "آل عمران:81".
فهذا الميثاق الذي واثقهم به لأجل ما آتاهم من كتاب وحكمة برهان على المكانة الأحمدية، فإن الرسل بالنسبة له صلى الله عليه وآله وسلم أمة وهو رسولها، وهذه المكانة هي ولايته صلى الله عليه وآله وسلم على جميع الرسل.
ومثال ذلك أنك ترى مجلسًا جمع أهل العلم والهدى والتقوى؛ ورجل هو وليّهم وهم أتباعه ينصرونه، فكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو رسول مثل الرسل؛ ولكنه عليه الصلاة والسلام وليّ الرسل بتصريح هذه الآية الشريفة.
فالمراد بالرسول في قوله سبحانه: (ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ) هو سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يرسله مؤيدا لهم فيما جاءوا به من عند الله تعالى، وإن خالفت شريعته شريعتهم في فروع الفقه والمعاملات، وفي تفصيل إجمال علوم التوحيد وأسرار غيب الأسماء والصفات والحكم والآداب، فإن ذلك مقتضى بعثة خاتم الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم الذي أخبرنا الله بما تفضل به علينا بسببه لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) "المائدة:3"، فإن كل رسول بُعث قبله جاء بما جاء به مَن كان قبله وزيادة، حتى أتم الله دينه وأكمل نعمته على العالم أجمع ببعثة حبيبه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ) توجب على كل نبيّ لو بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عصره أن يؤمن به وأن ينصره، فكيف يكون الحال بغير الأنبياء من أتباعهم وغيرهم؟، فيكون الإيمان منهم به ونصرتهم له من باب أوْلَى، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لَوْ كَانَ أخِي مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي).
يقول الإمام أبو العزائم:
الرسلُ مِن قبلِ الحبيبِ محمدٍ نوابُه وهو الحبيبُ الهادِي
موسى وعيسى والخليلُ وغيرُهم يرجون منه نظرةً بودادِ
رغبوا يكونوا أمةً لمحمدٍ وبحبِّه فازوا بكلِّ مُرادِ
وبمحكمِ القرآنِ عاهَدَهُم له أن يؤمنوا بسِرَاجِهِ الوقَّادِ
ولما أن أخبرهم بنود العهد والميثاق أخذ منهم الإقرار على ذلك (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) والإصر: هو العهد الوثيق المعقود على كمال الإيمان والتسليم (قَالُواْ أَقْرَرْنَا) أي: قبلنا وسلَّمنا بيقين (قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) "آل عمران:81".
يقول الإمام شارحا ذلك المشهد البهيّ:
من البدءِ في الميثاقِ بدءُ حنينِي |
إليكَ أيا شمسَ الهدى التعيينِي |
فكان هذا الميثاق بمثابة أمانة حملوها، وهم مأمورون أن يبينوها لأنفسهم ولغيرهم بالحجة حتى يفوزوا بما وعد الله به مَن آمنوا بسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصره، فلم يخل سفر من الأسفار من لدن آدم إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام إلا وتجمل بذكر اسمه صلى الله عليه وآله وسلم، والحث على اتباعه والتوسل إلى الله تعالى بجاهه، كتم ذلك أعداء الحق من أهل الكتاب، ولكن القرآن الكريم بيَّن لنا ذلك جليًّا.
وقد أشار الإمام أن ذلك العهد قد شهده مَن أخبر سبحانه عنهم بأنه رضي عنهم ورضوا عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل ومن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، ممن ورثوا تلك المكانة؛ أو أقامهم الله أبدالًا لرسله صلوات الله عليهم وأكرمهم باختصاصهم بالوارثة من مقام الرسالة أو من المكانة الأحمدية.