آدَابُ الْمُسْلِمِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ (1)

28/07/2025
شارك المقالة:

  يقول الله تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) "الأنعام:153".

   عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خَطَّ لنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يوما خَطًّا، ثم قال: (هَذَا سَبِيلُ اللهِ) ثم خطَّ خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره، ثم قال: (هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهَا) ثم قرأ هذه الآية، وأخرجه ابن ماجه في سننه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فخطَّ خطًّا، وخطَّ خطَّين عن يمينه، وخطَّ خطَّين عن يساره، ثم وضع يده في الخطِّ الأوسط فقال: (هَذَا سَبِيلُ اللهِ) ثم تلا هذه الآية: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ). وذلك كما أورده القرطبي في تفسيره.

   والطريق إلى الله بدايته العلم، ووسطه العمل، وآخره معرفة الله تعالى بعد معرفة النفس، والعلم في البداية هو العلم بأركان الإسلام وأحكام المعاملات، ومن تعلم هذا العلم وعَمِل به علَّمهُ الله ما لم يكن يعلم، قال تعالى: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) "البقرة:282"، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) "أبو نعيم وغيره"، وبالعمل بما علم يسلم المسلمون من يد السالك ولسانه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ) "البخاري وغيره" وفي رواية أخرى: (مَن سَلِمَ النَّاسُ مِن لِسّانِهِ وَيَدِهِ) ومتى سَلِم الناس من لسانه ويده؛ سَلِمُوا من باب أوْلَى من جميع الجوارح.

   والطريق في اصطلاح أهل السلوك إلى ملك الملوك: مَحْوُ ما بينك وبين الوصول إلى مقصودك، يقول الله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) "المائدة:48"، ومن معاني الشِّرْعَة أنها: الأحكام الظاهرة وهي التي تصلح الظواهر، والمنهاج: يراد به علوم الطريقة وهي التي تصلح الضمائر.

   والطريق إلى الله تعالى هو عمارة كل وقت من أوقات السالك بما اقتضاه الوقت من اللازم الشرعيّ؛ من عمل قلبيّ فقط، أو عمل بدنيّ فقط، أو عمل مزدوج منهما، وبذلك ينتقل على معارج القرب في كل لمحة ونفَس، لأن الزمن هو المراحل التي ينتقل منها إلى حضرة الرب سبحانه وتعالى، وإنما العمر هو المسافة التي بين العبد وربه: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) "العلق:8".

   يقول الإمام الحسن سلام الله عليه: "يا ابنَ آدم؛ إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطتَ من بطن أمك، فخُذْ مما في يديك لما بين يديك، فإن المؤمنَ يتزود، والكافر يتمتع، وكان يتلو بعد هذه الموعظة قولَ اللهِ تعالى: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) "البقرة:197"".

   وقال بعض العارفين: إن لله تعالى إلى عبده سِرَّين يسرهما إليه، يوجده ذلك بإلهام يلهمه، أحدهما إذا ولد وخرج من بطن أمه يقول له: عبدي، قد أخرجتُك إلى الدنيا طاهرًا نظيفًا، واستودعتُك عمرَك، ائتمنتُك عليه، فانظر كيف تحفظ الأمانة وانظر كيف تلقاني كما أخرجتك، وسٍرٌّ عند خروج رُوحه يقول: عبدي، ماذا صنعتَ في أمانتي عندك، هل حفظتَها حتى تلقاني على العهد والرعاية فألقاك بالوفاء والجزاء؟، أو أضعتَها فألقاك بالمطالبة والعقاب.

   ويرى الإمام أبو العزائم أن أعضاء البدن آلات للنفس، لكل عضو وظيفة يؤديها، ومتى كملت الآلات والأدوات أمكن للنفس أن تقوم بواجبها وتسارع إلى كمالاتها بفضل الله تعالى.

  ومن عناية الله تعالى بالعبد أن يهبه نفسا زكية يجملها سبحانه بمعاني الخير فتميل إليه.

  ومن العناية أيضا أن ينشأ المسلم بين والدين تقيين عاملين بكتاب الله وسنة رسوله فيكونان أعظم إمام له، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) "الطور:21".

   ومن العناية أن الله يمن على المسلم بالمرشد المتخلق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الممنوح لسان الحكمة.

    ومنها أن ينشأ محفوظا من الفتن الخاصة والعامة.

   ومنها أن يرزقه الله تعالى الحياء من صباه فيستحيي أن يتشبه بمن لا خلاق لهم، فيشب على التقوى.

   ومنها أن يجعل الله له أصدقاء يعينونه على الخير فتتجمل نفسه التي وهبها الله له بما هي مؤهلة له من جمال أخلاقهم، كالرحمة والبر والصلة والشجاعة والمسارعة إلى عمل الخير واستنكاف عمل الشر، حتى يبلغ أشده وقد حفظه الله تعالى مما يشين أهل السلوك.

   والأدب في الطريق إلى الله تعالى يحظى في علوم الإمام بمنزلة رفيعة واهتمام بالغ، فيقول في حكمة من حِكمه: "حَافِظْ على الأدبِ ولَو رُفِعْتَ لأعلَى الرُّتب، واخْضَعْ للسُّنَّة ولَو بَشَّرَكَ بِالجَنَّة".

   والإمام المجدِّد أبو العزائم في قصيدته: "آداب المسلم على الصراط المستقيم"؛ يحاول أن يعين الذاكر، ويذكِّر الناسي بجملة من الآداب الإسلامية الرفيعة في طريق السير والسلوك إلى الله سبحانه، راجيا بذلك أن نتجمل بجمالات أهل الحق في الطريق إلى الله تعالى الذين وصفهم الإمام بقوله: "أهلُ الطريق كانوا أئمةً للأمراء، وسادةً للخلفاء، لأنهم خافوا اللهَ؛ فأخاف منهم كل شيء، وأقبلوا على اللهِ؛ فأقبل بقلوب الخلق عليهم، وجمَّلوا سرائرَهم لله؛ فجمَّل علانيتَهم لعباده".

   وهذه القصيدة تشتمل على مجموعة من الآداب والنصائح والإرشادات يوجَّهها الإمامُ إلى جميع إخوانه في الطريق إلى الله تعالى، وهم الذين وصفهم في كتابه: "دستور السالكين" بقوله: "أريدُ بالإخوانِ: كُلَّ الناطقين معي بـ لا إلهَ إلا اللهُ محمدٌ رسولُ اللهِ، المتفقين معي على التصديق بما أنزل اللهُ على سيدنا ومولانا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، المؤمنين باليوم الآخر، وإن تفاوتت مراتبهم من حيث فهم آيات الله، وذوق معانيها، وانبلاج أنوارها، ووضوح الحجج والدلائل بحسب المواهب التي يمن الله بها على كل أخ مؤمن، من الفطنة والذكاء، والنور والفقه، والمعرفة والعناية، والتوفيق لعمل تزكية النفوس والقربات، ومكارم الأخلاق، وحسن المعاملات، وعلوم اليقين.

   فإن هذا التفاوت وإن أدى إلى اختلاف في مشاهدهم وأحوالهم وخصوصياتهم بالنسبة لما يمُنّ اللهُ به عليهم من مزيد الإيمان؛ إلا أننا والحمد لله جميعا نمثل أبناء والد واحد ووالدة واحدة، كلنا بارون بوالدينا، لا نشك ولا نرتاب من صحة نسبتنا إليهما، إلا أننا نتفاوت في السن، وتفاوتنا في السن لا يؤدي إلى اختلاف بيننا أو خلاف، بل كل واحد منا - وإن كان رضيعا - هو أخ للآخر - وإن كان كهلا -، حظه من والديه مع طفولته كحظ الكهل منهما نسبا وميراثا وحقوقا، إلا أن الصبيّ يعظم أخاه الكبير بالاقتداء به، وتلقي علومه، ومعاونته له على النفع العام، والأخ الكبير يرحم الصغير بدلالته على الخير، وتربيته على ما به سعادته وسعادة إخوته، وموالاته بما لابد له منه من غذاء للجسم أو للرُّوح، أو تزكية للنفس.

   قال الله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ" "الحجرات:10"، وقال صلى الله عليه وسلم: (تَرى المُؤْمنِيِنَ في تَرَاحمِهمْ وَتَوادهِمْ وتَعَاطُفِهمْ كَمَثَل الْجَسَدِ إذَا اشْتكَى منْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى) "البخاري وأحمد"، وقال صلى الله عليه وسلم: (المُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إذَا اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّه، وَإذَا اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّه) "أحمد ومسلم"، وقال صلى الله عليه وسلم: (المُؤْمِنُ للمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ) "البخاري ومسلم وغيرهما"، وقال صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُونَ تَتَكَافأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَن سِوَاهُمْ...) "أبو داود والنسائي".

   فكأنِّي والحمدُ للهِ إذا قلتُ: إخواني، فإنما أعني كلَّ من اعتقد عقيدتي التي هي: أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأشهدُ أن سيدَنا محمدًا رسولُ اللهِ، وصدَّقَ بكتبِ اللهِ ورسلِ اللهِ صلوات الله وسلامه عليهم وملائكتِه وقضائه وقدَرِه، وآمنَ بالآخرة إيمانا حقيقيا جعلها ممثلة آمامه، فرغب في نعيمها، وخاف عذابها؛ خوفا تحقق به أن الوقوع في المعصية هو عين العذاب الأليم.

   بهذا أراني منشرح الصدر إذا أنا خاطبتُ إخوتي بما أخاطبُ به نفسِي، وقمتُ خادما لهم بقدر ما وهبَ لِي رَبِّي".

   وبين يدي بيان بعض معاني تلك القصيدة؛ نود أن نشير إلى أن ما وَفَّق اللهُ تعالى إليه من شرحها هو من علوم الإمام المجدِّد التي أثبتها في العديد من مؤلفاته، حيث فُسِّر كلامُ الإمام بكلامِه، مع شيء من التصرف حسب ما يقتضيه الشرح في بعض المواضع، أو دُوِّنت بعض معاني علومه رضي الله عنه، مع الاستدلال بمعانٍ دوّنها رجالٌ من سلفنا الصالح رضي الله عنهم سعيا لتتميم الفائدة، وبالله تعالى التوفيق.

   ويبدأ الإمام هذه القصيدة بمخاطبة الذين عَمِلوا بما عَلِموا، فأفاض الله تعالى عليهم عِلم ما لم يعلموا، وأهَّلهم سبحانه بهداية قلوبهم إلى سماع إمام عصرهم بآذان القلوب، فكانوا محلا لتلقي علومه بالقابل الذي وهبه الله تعالى لهم، حيث يخاطبهم بقوله:

 

أَيَا رِفْقَةً بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ صَدَّقُـــــوا    وَيَا خُلَّــــــــــــةً بَاللَّهِ لِلَّهِ وُفِّقُــــــــــــــــــــوا

أَيَا سَادَةً ذَاقُوا رَحِيقًــــــا مُقَدَّسًــا    عَلَى مَنْهَجِ الصِّدِّيقِ سَارُوا وَرَافَقُوا

وَإِخْوَانَ صِدْقٍ بِالْعَزِيـمَــةِ بَادَرُوا    لِرَشْفِ الْمُدَامِ الْحَقِّ حَتَّى تَحَقَّقُـــوا

 

   يكشف الإمام في أول بيت من أبيات هذه القصيدة عن مشهد توحيدي خالص، وهو أن تصديق هؤلاء كان بالحق؛ ولم يكن بأنفسهم، وأن خُلتهم هي بالله سبحانه وليست بحولهم وقوتهم، وأنهم وُفِّقوا للحق بمحض فضله وإحسانه، وهم بتلك المعاني أصبحوا سادة ذاقوا من خمرة التوحيد ما به رَبَا إيمانُهم في قلوبهم، ودام تصديقهم فكانوا على منهج الصدِّيق عقيدة وعبادة ومعاملة وخُلُقا، فهم من خواص المؤمنين، ومنهجُ الصِّدِّيق هو الترجمة عن صدق الاعتقاد بحسن النية وسلامة العمل واستقامة المنهج.

   قال الله تعالى: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ...) "الحديد:18-19".

   وهؤلاء كما يبين الورتجبي هم الذين شاهدوا الله بالله بنعت المعرفة والمحبة، وتبعوا رسولَه بنعت المحبة والمعرفة بشرفه وفضله، والانقياد بين يدي أمره ونهيه، فأولئك هم الصدّيقون؛ لأنهم معادن الإخلاص واليقين وتصديق الله في قوله بعد أن شاهدوه مشاهدة الصديقية التي لا اضطراب فيها من جهة معارضة النفس والشيطان، وهم شهداء الله المقتولون بسيوف محبته، مطروحون في بحر وصلته، يَحْيَوْن بجماله، يَشهدون على وجودهم بفنائه في الله، وبفناء الكون في عظمة الله، وهم قوم يستشرفون على هموم الخلائق بنور الله، يشهدون لهم وعليهم لصدق الفراسة؛ لأنهم أمناء الله، خصَّهم الله بالصديقية والسعادة والولاية والخلافة.

   وفي إشارة لابن عجيبة: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ) وهم الذين بذلوا مهجهم وأرواحهم في مرضاة الله - ومَن كان في الله تَلَفه كان على الله خَلَفه - (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) أي: قطعوا قلوبهم عن محبة ما سواه، وحصروه في حضرة الله، (يُضَاعَفُ لَهُمْ) أنوارهم وأسرارهم، (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) شهود الذات الأقدس، وهؤلاء هم الصِّدِّيقُون المشار إليهم بقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ).

   وهؤلاء هم إخوان الصدق الذين بادروا بالعزيمة لرشف المُدام الحق حتى تحققوا، ومن معاني عزائم الله أنها هي فرائضه التي أوجبها.

   وأُولُو العزم من الرسل هم الذين عزموا على أمر الله فيما عهد إليهم، وقد خاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) "الأحقاف:35"، وقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أُولِي العزم من الرسل هم ذوو الحزم والصبر، وقال مجاهد: هم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد؛ عليهم الصلاة والسلام، وهم أصحاب الشرائع، وعن ابن عباس أيضا: كل الرسل كانوا أولي عزم، واختاره عليّ بن مهدي الطبري، قال: وإنما دخلت (مِن) للتجنيس لا للتبعيض، أي: اصبر كما صبر الرسل.

   وفي إشارة لابن عجيبة رضي الله عنه أن الله جل جلاله جعل أولياءه على قدم أنبيائه، فمنهم على قدم نوح عليه السلام في القوة ونفوذ الهمة، مهما دعا على أحد هلك، ومنهم على قدم إبراهيم عليه السلام في الشفقة والرحمة وعلو الهمة وتحقيق التوحيد وإمام أهل التفريد، ومنهم على قدم موسى عليه السلام في المناجاة والمكالمة والقوة والعزم، ومنهم على قدم عيسى عليه السلام في الزهد والانقطاع، ومنهم على قدم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهو الجامع لما افترق في غيره، وهو قطب الدائرة.

   وعزيمة الصِّدِّيقين تكلم عنها القشيري بقوله: الصدّيق: مَن استوى ظاهرُه وباطنُه، ويقال: هو الذي يحمل الأمرَ على الأشَق، لا يَنزِلُ إلى الرُّخَص، ولا يجنح إلى التأويلات، وقد جعل الإمام أبو العزائم تلك الصفة من صفات الدعاة إلى الله تعالى في معنى ما روي عنه: الداعي إلى الله يأخذ بالأشق؛ مع وجود الأيسر.

    وهؤلاء بادروا بالعزيمة لرشف مُدَام التوحيد الحق حتى تيقنوا وتحققوا بمقولة الإمام في إحدى قصائده:

وتشم من طِيبِ الوجود ورُوحه     معنى سما فيه لنــــــــــــــــــــــــا أجــلاهُ

وتذوق راحَ الواحدية موقنــــــــــــــــا      بفناءِ كلِّ الكــــــــــــــــــــــونِ إلا اللهُ

وترى حقيقةَ أحمد أزليــــــــــــــــــــــــــــةً      والقبضة العَلْيَــــــــــــــــا بكنز بهــاهُ

وتراه سِرًّا ساريا منــــــــــــــــــــــه بــــدا     ما قد تشاهــــــــــــــــــــــده وما تـــرآهُ

               ولدى الحقيقة فانتَبِهْ من نومـــــة    متيقنا بالحال من معنــــــــــــــــــــــــــاهُ              

وتذوق أنكَ عــاجزٌ فتتوب مِـن    شِرْكٍ خَفَى وتـــــــــراك عَبْدَ عُلاهُ

 

   وأمثال هؤلاء هم اللبنة التي يجمع الله تعالى عليها شتات الأمة الإسلامية ويعود بهم المجد الإسلامي الذي فقدَتْه، ولذلك يقول لهم الإمام المجدِّد مذكِّرًا إياهم بدورهم هذا:

 

وَيَا عُصْبَةَ الْمُخْـتَــــــارِ يَا نَجْــدَةَ ٱلْهُدَىٰ   وَمنْ بِكُمُو فِي مَنْهَجِ الْحَقِّ رَافِقُ

وَيَا َأولِيَــــاءَ اللَّـــــــــهِ يا أَهْــــــــــــــــــــــــــــــلَ وُدِّهِ   وَمَنْ لَهُمُو الْمُخْـتَــــــارُ قَدْ يَتَشَـوَّقُ

  وَمَنْ خُصِّصُوا مِنْ سَيِّدِ الرُّسْلِ بِالصَّفَا   وَمَنْ هُمْ بِحَـــــــــــارٌ لِلْهُـــدَىٰ تَتَدَفَّقُ

 

للحديث بقية