شارك المقالة:

قص  الإمام  على مريديه قصصاً كثيرة كان يعالج بها أموراً شتى هى قضايا الساعة فيها العلاج وفيه الشفاء، ويمكن تأويل كل قصة منها على معان شتى، ففيها العبارة وفيها  الإشارة  وفيها  الرمز،  ولا تزال الأحداث فى كل جيل مر ويمر بنا تحتاج إلى الأخذ بعبرتها.

ويصور لنا الإمام محادثة بين الدين وإبليس ليصور لنا الواقع الذى كانت تعيشه مصر فى عصره من حيث إباحة البغاء رسمياً بأمر الدولة، ووقوف العلماء على باب  السلاطين،  وشرب  الخمر  وانتشار الربا، وأمثلة اخرى، وذلك بأسلوب مؤثر يأخذ بالألباب، ثم يضع رضى الله عنه سبيل العلاج ، فيقول مفتتحاً مقالته تحت عنوان (محادثة الدين) [38]:

مضى  الدين  فلقى  إبليس فقال له إبليس: مر معى حتى أريك أعمالى، فإنى أفرغت جهدى فيما يشقى آلامى. ومر الدين معه فوجد جنوده فى استعداد تام كأنهم فى ميدان القتال،  وقال  إبليس  للدين:  سلهم عن عملهم، فدنا الدين وسأل الجند: ما عملكم؟ فقال جندى له: نحن حرس على النساء  الفواحش  حتى يأمن على أنفسهم من اذية أقاربهن، ويأمن الزانى على نفسه من  المتعصبين  الذين  ليسوا  عصريين. فقال له الدين: يا بنى، أنت أزلت الكفر بسيفك، ومحوت الظلم  برمحك،  وأزلت  الرزائل  بشجاعتك، وأقمت حدود الله بغيرتك، ودفعت الباطل ليظهر الحق.. مالى أراك وقفت بعد أن كنت على ثغر تحمى الأمة من أعدائها أو فى ميادن لتفتح مملكة للإسلام أو ممتطياً جوادك لصد اعداء الله المهاجمين!! بلغ بك الذل أن تقف بسيفك ورمحك لتحفظ باغية وتحرس زانية، أين تلك الغيرة الإسلامية؟ وأين هذا الدم الإيمانى الحار؟ وأين الأنفة والعزة التى كانت للمؤمنين؟ أترضى أن يكون سيفك لمحو الحق  وظهور الباطل؟.. فنظر له إبليس وقال: إنى فتحت عليهم باب تقليد  أعداء  الله  وأعداء رسول الله  فاستحسنوا أعمالهم ونسوا ما كان عليه سلفهم الصالح ليغضب الله عليهم فأكون قد انتقمت لنفسى منهم.

ومر الدين  فوجد رجلاً مجملاً بزى النساك وحواليه رجال، فقال إبليس للدين:سله، فسأله إلى أين أنت متوجه ؟ فقال : دعانى  وزير كبير  فعلمت  أنها  السعادة  فأسرعت  إليه  لأنال الحظوة لديه وأنفذ به أغراضى وأنتقم به من أعدائى، فنظر إليه الدين وقال: أنت موسوم بسمة العلم والتنسك، وأنت السراج الذى يستضىء بك العامة، والإمام الذى يقتدى بك الخاصة، وقد صرح القرآن بأن لا نتخذ ولياً إلا من المؤمنين ، وأمرنا  ألا  نولى  أعداء  الله  تعالى  ولا  نسارع  فيهم، وقد نهانا صلى الله عليه وسلم عن الوقوف على  أبواب الملوك من خلفاء المسلمين، وقد كنت فيما سبق تعظم نفسك عليك أن تزور أمير المؤمنين، وأخبار فضيل بن عياض ومالك بن أنس وغيرهما برهان، فكيف رضيت بولاية اعداء  الله وموالاتهم؟ أترضى أنت تحمل أوزارك وأوزار من يقتدون بك إلى  يوم  القيامة؟ هذا عمل  من  نسى الآخرة ونسى ذكر الله فانساه نفسه، أما سمعت قول الله  تعالى: (يا أيها  الذين أمنوا لا  تتخذوا  اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) [39]  ؟ ما الذى حدث؟ أأنزل  قرآن نسخ  ما  أنزل  على  حبيبه  ومصطفاه  صلى  الله  عليه  وسلم؟  أو بعث  رسول  بعد  خاتم الأنبياء؟ إنى  لأعجب  من  أن أرى رجلاً عليه سيما النساك ولبسة العلماء يسارع إلى الوقوف على أبواب من نهانا الله عن موالاتهم واتخاذهم أولياء. فنظر إليه إبليس وقال: لقد أفرغت جهدى حتى  أفسدت  قلوب العلماء  والنساك  وأبدلت  محبة  الله  تعالى  ورسوله صلى الله عليه وسلم والدار الآخرة بمحبة المال والنساء  والسيادة، وأبدلت من  قلوبهم  محبة  القرآن  والسنة  بتقليد  أعداء الله والرأى والهوى، وهذا الناسك  العالم  الذى تراه ناهز السبعين من عمره وسافر أقصى الأرض ولم يحج إلى بيتى الله ظاهره ظاهر الناسك ولباسه لباس العلماء والقلوب قلوب الشياطين، فقال الدين لإبليس: كل ذلك بسعيك؟ قال: إنى  طلبت  من  الله  تعالى  أن  ينظرنى إلى يوم يبعثون، وأن أقعد لهم الصراط المستقيم حتى لا يجد أكثرهم شاكرين.

ثم  مر الدين مع إبليس فرأى رجلاً حوله الشرطة، فقال إبليس: سله، فقال ما ذنبك؟ قال: شربت خمراً بعشرة دنانير فنما المال على بالربا حتى صار مائة دينار، ورفع الأمر فحكم على القاضى بسجن سنة لأنى غررت بصاحب المال، فعجب الدين وبكى بكاءً شديداً وقال: مسلم يشرب الخمر ويستعمل الربا ويقضى عليه  فى  بلاد  المسلمين؟ ثم  سأله: ومن الذى قضى عليك بهذا؟ فقال: كافر بالله تعالى، فقال الدين:  كافر يجلس  على  كرسى  القضاء فى بلاد المسلمين؟ فضحك إبليس وتمايل عجباً وقال: لتعلم مقدار عملى . فتوجه  الدين  إلى  وجهة  الدعاء  قائلاً: اللهم  يا من أنت الله الذى لا إله إلا أنت، يا من وعدك حق ودينك حق، أسألك أن تأنى بقوم تحبهم ويحبونك تذل بهم إبليس وجنوده، كما قلت سبحانك (إن كيد الشيطان كان  ضعيفاً) [40]، يا من قلت (إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى) [41]، أغث دينك وأظهره بإحسانك.

ثم  انصرف الدين فجذبه إبليس وقال: سر معى حتى ترى القضاة فى محاكمهم وبم يحكمون، والعلماء فى  معاهدهم  وبم  يعلمون، والتجار  فى  حوانيتهم  وبم  يتعاملون،  والنساء متبرجات وكيف يغازلن الرجال  متفضحات ، ثم  تنظر  إلى  المساجد زخرفت بالفراش والرياش وأغلقت أبوابها، فبكى الدين وتخلص  منه  مبتهلاً  إلى  الله  ضارعاً متوسلاً برسول الله، فلباه   الله وأجابه (سيجعل  الله  بعد  عسر يسرا)[42].

ويضرب الإمام أمثالاً فى أسلوب شيق يعطى أمثلة فى صور قصصية جميلة حتى تنسى، وهذه قصة منها قالها رضى الله عنهفى درس من دروسه: 

أراد رجل من أهل العراق أن يحج فركب البحر مع رفقة له قاموا بالخدمة طيلة أيام سفره. ولما اوغل فى  الإقيانوس [43] الهندى عصفت  الريح  بالسفن ، فلم تبق عليها شيئاً، وضل الربان الطريق، وتجهم الزمان واكفهر جو المكان وتلبدت الغيوم، فارتطمت السفين بالصخور، فغرقت  السفين وهلك كل من فيها  إلا  هذا  العراقى  الذى  كانت  له  دراية فى السباحة وقدرة على مقاومة الموج بالصبر الجميل.

وقذفته  امواج  البحر العجاج اللجاج على شاطىء جزيرة وجد عليه أقواماً فرحين مهللين مكبرين، ثم جاءوا معهم بالطبول والمزامير والعيش الكثير والهوادج ذات الأثاث الوثير.

خرج  الرجل  من  البحر  عرياناً  فلا  رداء عليه وجوعاناً لا يقوى على المشى، فما أسرع أن ألبسوه قميصاً  موشى بالذهب الإبريز وجبه فى أحسن تطريز، وجىء بأخزنة من الطعام عليها ما لذ وطاب، فأكل  وشرب  ونام،  فاستيقظ  والقوم  بين  تهليل وتكبير وفرح ومرح ماله من مزيد، حتى كان اليوم السابع  لقدومه  عليهم  فتجمع  عليه  القوم  وألبسوه  تاجاً موشى بأغلى الجواهر الحسان واللآلى فوق الجمان ،  ونادوا  به  ملكاً  على  هذه الجزيرة، الأمر الذى كان لا يحلم به فى سالف العصر والزمان.

وفكر  الرجل وقدر  فيما أتاه الله من هذا الحظ الكثير والملك الكبير، فاستوزر لديه بعض الحكماء من رجالات  القوم  المعدود  برأيهم بعد أن مكث طويلاً فى تعلم لغتهم، فلما تم له تعلم هذا اللسان، وأمكنه أن يخاطبهم  بما  فى الجنان، جمعهم ذات يوم وسألهم عن هذا الحال الذى لاقاه والحظ الذى وافاه وهم يكتمون عنه أمرهم فيه وحرصهم على أن يوافيه، ولكن لما تودد إليهم ووجدوا أنه فضله دائماً واصل إليهم، وأنه أغرقهم بنعماه، واستطابوا العيش معه قالوا له: أيها الملك العزيز والذهب الأبريز، إننا كل عام  نقود  ملك  هذه  الجزيرة الهاوية، قال: وما الهاوية؟ قالوا: بئر أعددناه لأمثالك سحيقة القاع سيئة المتاع بها فى كل مكان منها شواظ مسنونة، إذا هوى فيها إنسان لا يصل إلى القاع حتى  يبعثر جسمه فى كل مكان، ثم بعد أن نفرغ من هذا العمل الوبيل نسرع إلى الشاطىء فى فرح  ومرح  لنستقبل  من يلقيه البحر إلينا ليكون ذلك الملك الجليل.

فلما   أخبروه  الخبر، وأراد  أن يكون منه على حذر، قال لهم: وكيف إذن المفر؟ فقال له أكبرهم سناً، وأعظمهم قدراً: أرى أنه إذا طابت نفس  المليك  للبقاء مما عليه إلا أن يأمر بإصلاح هذه البلقاء، قال: وما  هذه  البلقاء؟  قال: جزيرة  تبعد  عنا  مسيرة  يومين،  فليعمرها ويستثمرها فتكون له مأوى أمين، وحصن  حصين  بعيداً  عن غوغاء هذه الجزيرة، وهوجاء هذه الفئة الشريرة التى لا تعرف قدر الملوك.

وصحت عزيمة هذا الملك على استصلاح هذه الجزيرة،  فأرسل  إليها  العمال  والبناة  فشيدوا  له  قصراً عظيماً، وأرصد لهذا العمل الجليل أموال الدولة، فما أن قرب انتهاء العام حتى هرول إلى  هذه   الجزيرة فالفاها  جنة  عالية  قطوفها  دانية  تجرى من تحتها الأنهار تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها العزيز الغفار.

ثم  قال  الإمام رضى الله عنه: فمن يكون إذا هذا الإنسان؟؟ وبماذا ينطق هذا المثل يا أهل العرفان؟؟. قال رضى الله عنه بعد أن سكت الجميع:

إن  هذا  المثل  يصور  لكم  حياة  الإنسان  فى  دائرة  هذا  الإمكان ، فالسفينة : بطن الأم، وتحطيمها على الشاطىء: حالة الوضع، والملك: المولود الجديد، ألا ترى النساء يزغردن  ويضربن  بالدفوف  والرجال من  ورائهن  يرقبون  البشرى  وعلى  قدم  الاشتياق  إلى  سماعها  فى  صفوف،  ثم يخرج الطفل عرياناً فيكسونه بكل شىء نفيس وغال ويطعمونه أشهى ما يكون من الرزق الحلال، ثم ما زالوا  يكرمونه  حتى يبلغ الرشد ويتم له حسن الحال، فإذا كان شريراًَ ألقته ذنوبه وآثامه فى الهاوية،  وإن  شب  مفطوراً  على الخير  أنجاه الله من هذه الداهية فعمر آخرته بعمل صالح فى دنياه ليطيب له العيش فيها!! ولا ينفك طول وقته ذاكراً شاكراً لله الذى لا يسأله غير رضاه وحسن لقاه[44].

 

وقصة اخرى على شكل مناظرة تبين حقيقة العلم: [45]

جاهد   طالب  نفسه  جهاداً  أكبر  لينال  بغيته  من  العلم، فتحصل على ما مالت نفسه إليه، وناظر شيوخه أساتذته  حتى  ظهرت له المساواة. كان يعتقد أن أهل العلم لهم درجة عالية بنص قوله سبحانه: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) [46]، فلم يجد له درجة لنفسه  فوق  ما  كان  عليه  قبل  التعلم، ووجد الذى كان عليه فى دار أبيه من الصلاة والصيام والزكاة لم يزد وربما حصل التساهل  فى  تأديتها، فعجب وقال ما الذى اكتسبته من التعلم؟ وابتهل إلى الله تعالى أن يكشف له الستار عن  الحقيقة  وأن  يبين له  أقرب  الطرق  الموصلة  إليه  وأصفى  الموارد  المقربة  منه سبحانه وتعالى، وجلس متوجهاً إلى الله بقلبه.

وفى  هذا  التوجه  حضر  قلبه  فرأى أنه فى مجتمع من أهل الصفا ومع الله تعالى وكأنهم فى مجلس علم، وكأن  العلم  يبين  له  حقيقته ، فأصغى  بأذن  قلبه متجرداً من هيكله الإنسانى ولوازمه، مقبلاً بكليته على التلقى، فسمع العلم يقول:

إنما  يحتاج  إلى عند غيبة الحقيقة لأرسمها على جوهرة النفس بمقدار قابلية النفوس لا بقدر الحقيقة على ما هى عليه. فإذا صفا جوهر النفس ورسمت عليه صورة الحقيقة، تاقت النفس إلى  جلية  الأمر  وكليته، فارتقت من العلم إلى الذوق ومن الذوق إلى الشهود وجداً، ومن الشهود إلى العيان وجوداً.

ومن تلقى العلم، فظن انه بلغ الغاية بالعلم، حرم الرعاية وهى العمل بالعلم، فإن كمال العلم العمل به، لأن العمل به دليل على حصول علم الرعاية للعالم، ومن حرم الرعاية حرم العلم أى  لازمه.  وأنا  وإن  كنت مقصداً عظيماً لمن رغبوا فى السعادة، إلا أنى بعد تحصيلى أكون وسيلة لمقصد عظيم. وكل علم  لم يكن معلومه الله ورسوله فهو فى غايته تحصيل ما به حفظ الصحة ولا بقاء الحياة فى كون الفساد.

سأله أحد أهل الصفا الجالسين قائلاً: يا أخى ولو نال علم أحكام الله تعالى؟  قال:

نعم،  فإن  من تعلم الأحكام قبل العلم بالحاكم هلك وأهلك. انظر إلى العلماء من أصحاب رسول الله صلى الله  عليه  وسلم  كانوا  يكرهون الولاية كسيدنا على بن ابى طالب عليه السلام حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم  المدينة فى غزوة تبوك، وكمعاذ بن جبل حين ولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمين، حرصاً  على  دوام  مواجهة  رسول  صلى الله عليه وسلم، وكأبى حنيفة الذى ضرب على الولاية فأباها، وابن أبى ليلى وابن جريح ومالك بن أنس الذى ضرب وأوذى- رضى  الله  عنهم  –  وذلك  لأنهم  تعلموا الإيمان ثم تعلموا القرآن ثم الأحكام.

وسأله  آخر  قائلاً:  يا سيدى، إن أكثر العلماء الآن يهتمون بتحصيل علم الأحكام والأخبار والأقاصيص، فقال:  أما الذين يتعلمون الأخبار فإنهم أهل الشهرة لأنهم يحفظون الأحاديث باختلاف الرويات ويعلمون التجريح  والتعديل  حتى  يكون  لهم  المنزلة  العليا،  وأما الذين يتعلمون الأقاصيص فهم الذين يحبون أن يكونوا شيوخاً على العامة لينالوا حظهم.

أما  العلم  الذى  هو علم يطلبه أهل الصفا والوفا من خيرة عباد الله فهو: العلم بالله، والعلم بأيام الله، والعلم بآداب  سلوك  طريق  الله  تعالى ، وهذا  لا يقبل عليه إلا من سبقت لهم الحسنى من الله تعالى لأنها رعاية أزلية تجذب النفوس إلى ما خلقت له، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً) [47] وقال  تعالى: (واتقوا  الله  ويعلمكم الله) [48]وقال صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) [49]. وليس تحصيل الأحكام بعلم يقرب من الله تعالى، ولكنه يقرب من الملوك. ومن  حصل العلم بالأحكام ولم يحصل العلم بالحاكم كان كمن لم يجعل الله لهم نوراً.

ولم  تحصل  التفرقة  بين  جماعة  المسلمين  والخلاف بينهم إلا ممن حصلوا العلم بالأحكام ولم يهبهم الله تعالى  العلم  به  سبحانه  وتعالى  ، قال  تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء )[50] – بأى علم ؟ قال : العلماء  بالله  تعالى  ولكن  العلماء  بالأحكام   لا خشية  فى قلوبهم  من الله  تعالى، وكيف تكون فى قلوبهم الخشية وهم أسرع الناس  منافسة  فى  الوظائف،  والتقرب  من  الملوك  والأمراء،  والخوف  من  الأمر بالمعروف   والنهى  عن  المنكر، ومجاراة أهل الأهواء لا للمدارة ولكن للمداهنة. ولو أن الخشية من الله تعالى فى قلوبهم لرخصت الدنيا فى أعينهم، بل رخصت دماؤهم غيرة للحق.

وإن  نفساً واحداً  فى تحصيل العلم بالله تعالى يقوى اليقين قوة تبذل به الحياة العزيزة غيرة للحق كما فعل سحرة  فرعون الذين قالوا له: (فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا) [51]  بعد أن ظهر لهم آية من عجائب قدرة القادر سبحانه وتعالى. وهذا درس لم يتجاوز أنفاساً، كيف أنتج بذل الحياة محافظة على الأدب مع الله سبحانه وتعالى؟ .

وقد  فعل  أكثر  من  ذلك  أصحاب  رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد عذب بلال وياسر وزوجته وابنه عمار فى الله تعالى حتى قتلت أم عمار طنعاً بالحربة فى فرجها غيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمع  فيه  ما  تكره،  ومات  سيدنا  ياسر وهو مولى من فادح العذاب وكان ينجيه أن يدارى قريشاً. وكم عذب فى الله رجال حتى فارقوا أوطانهم وأعراضهم وأموالهم، وأبت خشية الله فى قلوبهم أن يداروا.

فإذا  كان  العلم  بأحكام  الله  تعالى  ينتج  الخشية  من الله  تعالى ، لما رضى العلماء ان يتنافسوا فى خدمة الملوك والأمراء على ما هم عليه من البدع المضلة والأهواء المضرة، وكيف يرضى العالم الذى يخشى الله تعالى أن يشترى بآيات الله ثمناً قليلاً؟ ويبيع الآخرة بالدنيا ؟ معالم الله قد انتهكت وحدود الله قد عطلت وشعائر  الله  قد  استهين  بها ؟  وهو  متلذذ  بطعام  شهى  وثوب  بهى وفرش وطى وخدم وحشم!! يداهن الأمراء ويرضيهم فى غضب الله تعالى؟ وكيف  يكون  عالماً  من  يجعل  العلم  آله  لجمع  الدنيا  أو يتعلم ليتولى رياسة أو ولاية؟