الإمام السيد عز الدين ماضى أبو العزائم والتصوف

31/07/2023
شارك المقالة:

    فى الذكرى العطرة للإمام السيد عز الدين ماضى أبى العزائم رضى الله عنه يطيب لنا أن نمعن الفكر ونفتح القلب والوجدان لكلماته السديدة وتوجيهاته الرشيدة ، لنقتبس نذرا يسيرا من نور تعاليمه وإرشاداته ، عسى أن تهتدى بها الأمة إلى طريق الخير والرشاد ، وتنكشف عنها الغمة وتهتدى إلى النور والسداد .

التصوف منهج وسلوك  :   

لقد رأى الإمام السيد عز الدين ماضى أبو العزائم أن الأمة تتقاذفها أهواء مذهبية ، وترفع فيها شعارات خارجية ، كلمات حق يراد بها باطل ، ورأى أن التصوف مجهول أمره ، مغمور قدره ، منكور أهله، فأراد أن يعرّف الأمة بحقيقة هذا المنهج الإسلامى الصحيح ، ويرد على خصومه المعاندين والمفرقين ، فكتب المقالات وأصدر الكتب لهذا الغرض ، وأهما كتاب :" إسلام الصوفية هو الحل لا إسلام الخوارج ".

    ويعرّف السيد عز الدين التصوف مبينا أنه ليس ضعفا ولا خمولا ولا انعزالا، بل هو الجهاد فى أعلى ذراه ، والعلم فى أصفى موارده ، والخُلق فى أعلى مثله ، وهو الذى ترك على الشخصية الإسلامية طابع كماله وهداه ، لتكون أعلى وأطهر نماذج الحياة في كل عصر بحسبه.

    إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا جامعين لمقامات الدين ، وكانوا فقهاء وعلماء وعابدين ومحبين ، حافظين لأنفاسهم وخواطرهم حفظهم لفرائضهم وسننهم، فلما اتسعت رقعة العالم الإسلامى ودخلت الدنيا على الناس، وابتدأت الشهوات والنزوات والمطامع والأهواء ، تلعب دورها وتنحرف بالقلوب عن مسارها ، قام رجال التصوف يحافظون على روح الإسلام وآدابه.

    لقد نشأت مدارس الحديث فى المدينة والعراق ، وتكونت مدارس الفقهاء فى الحجاز ومصر والشام وبغداد ، ثم نبتت مدارس لعلم الكلام بقواعده وأصوله ومناهجه ، ومدارس لعلوم التفسير بشرائطها وأصولها وفنونها ، وكما اجتهد الفقهاء فى الفروع ، وكما ابتدع رجال الحديث القواعد للرواة والسند ، وكما كوّن علماء التفسير مناهجهم فى البحث عن الذات والصفات ، والممكن والأسباب والمسببات والقضاء والقدر ؛ اجتهد علماء التصوف وشيوخه كذلك ، وأقاموا معارفهم وعلومهم فى العبادات والأخلاق ، ومناهجهم فى السلوك وأمراض القلوب وعلل النفوس ، ونوازع الخير والشر ، وأنوار الذكر والطاعة، ومقومات الشخصية الإسلامية الكاملة ، وكما تعددت طرق الفقهاء فى البحث والاستنباط وأنواع الأدلة وفنون القياس ، تعددت مناهج التصوف فى السلوك والمعرفة والأخلاق والآداب والأذكار والأوراد والفتح والكشف وِأسرار النفس.

وجهة النظر العالمية فى التصوف :

     ويقدم السيد عز الدين رضى الله عنه وجهة النظر العالمية فى التصوف ، موضحا ما قاله بعض المفكرين والمستشرقين والباحثين المحايدين عن الطرق الصوفية المنتشرة فى ربوع الوطن الإسلامى الكبير ، يقول المستشرق ماركس: فى جبال الهند وغابات أندونيسيا، وفوق الرمال الذهبية فى البلاد العربية ، وفى أحراش أفريقيا وذرى جبال الأطلس ، وعلى ضفاف الأنهار وفى أعماق القرى ، فى كل مكان هنا وهناك فى القارات الإسلامية يشاهد الإنسان أينما اتجه أبناء الطرق الصوفية بسمتهم وشعائرهم وحماسهم ، وفنائهم العجيب فى الإيمان بدينهم وإجلالهم لأوليائهم .

     ويقول المستشرق لين: لقد أوجد الصوفية فى البيئات الإسلامية أربعة مبادىء هيمنت على التفكير الإسلامى وهذه المبادىء هى : حب الله ، وحب رسوله ، والثقة بالأولياء وتقديرهم ، والإيمان بشيوخ الطرق والخضوع لهم والاقتداء بهم .

     وعلى الجانب الآخر يعرض السيد عز الدين وجهات نظر رجال  الفكر الإسلامى حيال الصوفية فيبين لنا ما كتبه الإمام الغزالى رضى الله عنه عن رجال التصوف قائلا: إنى علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى ، خاصة وأن سيرتهم أحسن السير ، وطريقتهم أصوب الطرق ، وأخلاقهم أزكى الأخلاق ، بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ، ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم ، ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إلى ذلك سبيلا ، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم فى ظاهرهم وباطنهم من نور مشكاة النبوة ، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به .

    ويقول الإمام الحارث المحاسبى رضى الله عنه بعد حديث طويل عن جهاده للوصول إلى الحق حتى اهتدى إلى التصوف ورجاله ، وكتب ما كتب فى وصف الحياة الصوفية، وما فى أهلها من الجمالات والأخلاق واتباع للشرع الشريف ، إلى أن قال : فأيقنت أنهم العاملون بطريق الآخرة ، والمتأسون بالمرسلين ، والمصابيح لمن استضاء بهم ، والهادون لمن استرشدهم ، فأصبحت راغبا فى مذهبهم ، مقتبسا من فوائدهم قابلا لآدابهم ، محبا لطاعتهم، ففتح الله لى علما ، به انفتح لى برهانه ، وأنار لى فضله .

سر اختيار الإمام أبو العزائم منهج التصوف :     

لقد وعى السيد عز الدين اختيار جده الإمام أبى العزائم لمنهج التصوف فى دعوته، وما وصف به رجاله حين قال : الصوفية هم الذين صفت قلوبهم من شوائب الكون، وتطهرت نفوسهم من رجس الشهوات، وتعلقت هممهم بالله تعالى ففنوا عما سواه ، ووجهوا وجوههم شطره ، لم تحجبهم الكائنات عن شهود مبدعها، ولم تشغلهم الآيات الجلية عن فهم إشاراتها وذوق معانيها ، هم عبيد الله السائرون على منهج نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهم الذين تلقوا أسرار التوحيد وأنوارالحكمة بقلوب واعية ونفوس صافية، عن العلماء العارفين بالله ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد وعى ذلك جيدا وأدرك قدر الصوفية ومنزلتهم فأقام نفسه مدافعا عن التصوف ورجاله ، بصفته محاميا عن أهل البيت والأولياء .

      فرغم أن الصوفية على مر التاريخ لم يشتركوا فى خصومات أو صراعات مع أحد ، فإن هناك من هاجمهم فى أمور كثيرة منها : صدق اتباعهم وتعلقهم وحبهم للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ، وإجلالهم له وصلواتهم الدائمة عليه ، وهاجمهم فى حبهم لأولياء الله واحتفالهم بموالدهم ، وهاجمهم فى مناهجهم فى السلوك والتربية، وهاجمهم فى حرصهم على أورادهم وأذكارهم ، وهاجمهم فى زهدهم وآدابهم، وزعم أنهم أعداء التوحيد وأعداء السنة .

     ويرد السيد عز الدين رضى الله عنه على هذا الهجوم الموتور بكل قوة ، مؤكدا أن الصوفية يحبون الله ورسوله حبا يملك عليهم وجدانهم وقلوبهم وأرواحهم وحياتهم لأن هذا هو لب الإسلام ودعوته ، وهذا الحب يؤدى إلى صدق اتباع المحبوب ، ومن عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يكن يعلم ، وهذا العلم المفاض وهذا الإلهام والكشف ، أسسه وشرائطه لدى الصوفية كافة أن يكون مقيدا بالكتاب والسنة .

     وأما أن الصوفية يحبون أولياء الله ويوقرونهم ويجلونهم ، فهو حب فى الله وبالله ، إنه حب الاقتداء والأسوة الصالحة، فالصوفى لا يحب الوليّ لذاته وإنما يحبه لربه ، والصوفى لا يعبد الولى ولا يسأله شيئا ، لأنه يعيش دائما تحت ظل التوحيد الصافى .

     وأما أن الصوفية قد سلكوا فى طريقهم إلى الله سبلا وأنشأوا طرقا ، وجعلوا لهم أورادا وأذكارا وأئمة وشيوخا ، فإن تعدد الطرق والشيوخ ليس إلا كتعدد المذاهب الفقهية ، وهو عين الرحمة للأمة ، لأنه يفتح للمؤمنين آفاقا فى السلوك وآفاقا فى العبادة ، بحسب إلهامات الشيوخ واجتهادات الأئمة :

وكلهم من رسول الله ملتمس          غرفا من البحر أو رشفا من الديم

    أما الأوراد والأذكار فما هى إلا وسائل لذكر الله واستغفاره على الدوام ، ليكون اللسان رطبا والقلب حاضرا والبدن خاضعا ، فيصير العبد فى معية ربه دائما ، لا ينساه ولا يحجب عنه طرفة عين .

     إن الزهد الصوفى - كما عبر عنه شيوخه وعلماؤه - ليس فقرا مذلا ، ولا ضعفا مميتا ، ولا قناعة خانعة ، إنه ترفع وإباء ، وعزة وكرامة ، وعزيمة ورياضة روحية ، هو أن تكون الدنيا فى يدك لا فى قلبك ، هو أن تملك المال ولا يملكك المال ، هو أن تسخر الجاه والمنصب للخير والحق ، لا أن يسخرك الجاه والمنصب حتى تهين وتذل .

نماذج من الجهاد الصوفى :      

ثم يقدم رضى الله عنه نماذج من الجهاد الصوفى العظيم ضد هوى النفس، وكذلك ضد الطغيان والبطش أو التهاون والتخاذل فى نصرة الدين ، لتكون دروسا لكل مسلم يؤثر الله على ما سواه : يكتب حجة الإسلام الإمام الغزالى رضى الله عنه إلى ابن تاشفين ملك المغرب فيقول له: إما أن تحمل سيفك فى سبيل الله ونجدة إخوانك بالأندلس ، وإما أن تعتزل إمارة المسلمين حتى ينهض بحقهم سواك .

     ويقول الإمام محيي الدين بن عربى رضى الله عنه للملك الكامل حينما تهاون فى قتال الصليبيين: إنك دنيء الهمة والإسلام لن يعترف بأمثالك ، فانهض للقتال أو نقاتلك كما نقاتلهم.

     ويطغى المماليك فى أرض مصر، فيثور العز بن عبد السلام الصوفى الكبير رضى الله عنه ويأمر بالقبض على المماليك ، ويعلن أنه اعتزم بيعهم فى سوق الرقيق لأنهم خانوا أمانة المسلمين .

     ويرى حاتم الأصم شقيق البلخى - وكلاهما من أعلام الصوفية - يراه يضحك بين الصفوف فى موقعة الترك ، فيقول له : ما يضحكك؟ فيقول: ألا أضحك وأنا فى أحب المواطن إلى الله ؟ إن أسعد أوقاتى وأرجاها عندى أن يرانى ربى ضاربا بسيفى فى سبيله ، وأنا بعد أحرص على الموت من حرصي على الحياة .

     ويقول عبد الملك بن مروان الخليفة الأموى لابن البيطار الصوفى ، فى غطرسة وغرور المُلك : أنا عبد الملك فارفع حوائجك إلىّ ، فيقول له ابن البيطار فى عزة المؤمن وكبرياء الصوفى : وأنا أيضا عبد الملك ، فهلم نرفع حوائجنا إلى من أنا وأنت له عبدان .

     ويقول الإمام الشعرانى مؤرخ التصوف رضى الله عنه : من لبس جديدا أو أكل هنيئا ، أو ضحك فى نفسه أو سعد فى بيته ، والأمة الإسلامية فى كرب أو شدة ؛ فقد برىء منه الإسلام .

     لقد طالب رضى الله عنه أن نتجه إلى رسالة التصوف الحق نستمد منها القوة الخلقية والعزة الإيمانية والفضائل الروحية ، لتكون درعا وحصنا نقى به أمتنا ونحميها، ومعراجا للوصول إلى أهدافها وأمانيها ، حتى يشع الروح الصوفى الطاهر المؤمن القوى فى كل حياتنا، فنجعله مادة فى معاهدنا ومدارسنا وصحفنا وكتبنا ووسائل إعلامنا ، وحياة ملهمة فى كل شئوننا ، حينئذ نظفر برضوان الله ، وتمتلىء أيدينا بعزة الصوفيين وبأس المؤمنين ، ويتحقق فينا قول رب العالمين: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) "آل عمران:139".

       جزاك الله يا سيدى عز الدين عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ، بما أرشدت إلى الحق ووجهت ، وبما فكرت وأخلصت فحققت بتوفيق الله ما أحببت.                                                  

من انجازات الطريقة العزمية في عهد سماحة السيد أحمد ماضي أبو العزائم

ولد الإمام السيد أحمد ماضى أبو العزائم نضر الله وجهه فى يوم الخميس 23 جمادى الآخرة عام 1312ه الموافق 20/12/1894م بمدينة المنيا .. وشاء المولى سبحانه أن يكون مولد الإمام إيذانا بميلاد دعوة آل العزائم ... وشروق شمسها على الأمة الإسلامية .. ففى عام ميلاده أسس الإمام المجدد أبو العزائم قدس الله سره جماعة آل العزائم لإحياء آثار السلف الصالح ..