(10) الانتقال إلى الخرطوم

05/03/2021
شارك المقالة:

من الثابت أن كلية غردون التذكارية  [1] (جامعة الخرطوم حالياً) قد افتتحت عام 1902م . وفى العام 1905م-  و كان عمره رضى الله عنه آنذاك 36 سنة- و عندما أفتتح القسم الخاص بتخريج المعلمين المؤهلين و القضاة الشرعيين بكلية غردون، انتقل الإمام رضى الله عنه من مدينة أم درمان إلى الخرطوم أستاذاً بالكلية. و سكن الإمام بحى الخرطوم غرب حتى تم بناء منزله بمنطقة برى و التى تقع إلى الشرق من المدينة، و الكلية تبعد عن السكن بحوالى ثلاثة كيلو مترات، و يفصلهما ثكنات الجيش. و منطقة برى مقسمة إلى أربعة أحياء، سكن الإمام بحى برى المحس (والمحس هى قبيلة فى شمال السودان كان أغلب سكان هذا الحى من هذه القبيلة). والمنزل الذى سكن فيه الإمام يقع على مساحة تقارب 400 متراً مربعاً، ويحيط به الجيران من الناحية الشمالية والغربية، وإلى الجنوب زقاق ضيق، أما المدخل الرئيسى فمن الناحية الشرقية (اتجاه القبلة فى الخرطوم) . بنى المنزل من الطوب الأحمر، و لا يزال المبنى كما هو حتى الآن، و من طابق واحد كما هو الحال فى كل منازل المنطقة. وأغلب سكان المنطقة برى من السودانيين الذين يعملون كحرفيين، و قليل من المصريين الذين يعملون كموظفين فى دواوين الحكومة، وخلت تماماً من الإنجليز. وللمنزل فناء شرقى كبير (حوش) كان يعقد فيه الإمام الدرس وتقام فيه الصلوات و الحضرات  و يجتمع فيه مع تلاميذه و مريديه بعد العصر. كما كان بالمنزل صالون (صالة استقبال) لاستقبال الضيوف و مقيلهم نهاراً. كما كان للإمام حجرته الخاصة. سكن الإمام ببرى لمدة تقارب العشر سنوات. و كان فى الإجازة المدرسية للكلية ينزل إلى مصر مستقلاً القطار و ينزل فى المحطات التى بها إخوان بناء على دعوات مسبقة منهم. التف الكثير من سكان برى و نواحيها المختلفه حول الإمام، فهدى الله على يديه الكثير ممن سبقت لهم من الله الحسنى، فكان الإمام لهم الأب الحنون و الشيخ المربى والملاذ الآمن و المرشد الدال على الله تعالى، ولذلك أحبوا الإمام و تتلمذوا له، وأطلق الكثير منهم اسم الإمام و كنيته على أبنائهم تبركاً به. وفى برى أقامت معه أسرته حيث كان يهتم غاية الإهتمام بتربيتهم و تعليمهم، من بينهم ابنه الأكبر سماحة السيد أحمد ماضى أبو العزائم الذى كان يعده منذ نعومة أظفاره إعداداً خاصاً لحمل أمانة الدعوة إلى الله تعالى من بعده، حيث خلفه فيما بعد فى دعوته عقب انتقاله إلى جوار ربه.

و كما هى عادة الإمام. يذهب إلى عمله بالكلية صباحاً ممتطياً دابته و يعود إلى بيته كذلك فى نهاية عمله اليومى، و كان بعض طلبته يرافقه فى غدوه ورواحه لزيادة تحصيل العلوم فيسألونه ويجيب.

و فى برى اجتمع على الإمام تلاميذه الذين تلقوا عنه هاطل فيض علمه و حملوا مشعل الدعوة إلى الله بعد نزوله لمصر، كما تعرف به واتصل به فى داره ببرى الكثير من الشخصيات و المريدين و الأحباب، و قد تفاوتوا فى معرفتهم و قربهم من الإمام رضى الله عنه. و كان يقيم مع الإمام ويلازمه أبكار تلاميذه من الأفراد و هم الشيخ عبد الرحيم الحيدرى السواكنى، و الشيخ محمد صبيحى، والشيخ أمين الأرزهلى، و لحق بهم الشيخ مفتاح زيدان، و كذلك المشايخ الأفاضل محمد نجاتى، والحناوى، و عبد الرحيم عياد، والسيد سالم، و أحمد النور عمار. و أسس الإمام فى برى زاوية آل العزائم، و الموجوده حتى الآن للصلاة و لتحصيل العلوم الدينية.

و كانت له دروس بداره يلقيها بعد صلاة العصر. و فى مسجد الخرطوم الكبير كان للإمام مجالس ذكر وعلم منتظمة امتدت لما يقرب من عشر سنوات كان يدرس فيها تفسيره للقرآن الكريم (أسرار القرآن) و الموطأ والبخارى و قسم العبادات من مدونة مالك ابن أنس.

و كان كثير من الناس- و حتى زماننا هذا- يعتقد أن الشيخ الولى هو ذلك الرجل الصالح ذو الكرامات و الخوارق للعادات والبركات الذى يكثر من ذكر اللسان ويعقد حلقات الذكر مصحوبة بالنوبة و الطار، و هما من أنواع الدفوف. جاء الإمام رضى الله عنه إلى مسجد الخرطوم الكبير والحال و الاعتقاد عند كثير من الناس على ما أسلفنا، فأراد أن يجذب الناس ليعلمهم، لأن العلم عنده سابق العمل، و كما روى فى الحكمة عنه: (أول الطريق علم و أوسطه عمل و آخره موهبه) ، و قوله: (عمل بلا علم ضلال، و علم بلا عمل وبال) .

ومن بالغ حكمة الإمام رضى الله عنه و رأفته أن بدأ بعقد حلقة الذكر ليجذب الناس إليها بعد الصلاة ذاكراً (الله- جهراً، ثم يجلس ليعلمهم أمور دينهم و فقه العبادات وتفسير القرآن الكريم، فالذكر أولاً يجذب القلوب و يجمع الهمم و يوقظها و يهيىء الأنفس لتلقى العلوم.

و بهذه الطريقة التجديدية فى الأسلوب والأدب، جذب الإمام الكثير من سكان الخرطوم لحلقته، فبدأت تنمو و تكبر. و قد كان رضى الله عنه يبدأ دروسه بفقه العبادات التى لابد منها ليقيم المسلم دينه، ثم ينقله بعد ذلك إلى علم أعلى فأعلى، حتى إذا تأهل أفاض عليه من علوم الحكمة العالية ومشاهد التوحيد، فقد كان هذا دأبه فى كل مجالسه، حتى فى الدرس الواحد يبدأ متنزلاً ثم يعلو بالحديث

و لقد حاول غير مرة بعض علماء السلطة و أدعياء التصوف الوشاية به لدى السلطات لتأليبهم ضده، و لكن الله     كان يقيض له من يدافع عنه و يكشف الأمر على حقيقته.. و من بينهم عمدة مدينة الخرطوم فى ذلك الوقت وأسمه المرضى الخضر، و غيره، و ازداد قدم الإمام رسوخاً وازداد الناس ارتباطاً به، ينهلون من فيض فضل الله تعالى المفاض عليه.

و قد دب الخلاف بين مجموعة من القضاة و منهم الشيخ محمد بك الخضرى و بين الإمام على أساس أنهم يريدون فرض تدريس مذهب الإمام أبى حنيفه رضى الله عنه نظراً لأنه المذهب الرسمى المعمول به فى مصر، و الإمام يرى أن يكون دراساته على مذهب الإمام مالك رضى الله عنه لأنه المذهب الوحيد بالسودان و به يعملون. واستقر رأى ولاة الأمور حسماً لهذا النزاع أن تقسم الكلية إلى قسمين: أحدهما لتخريج القضاه الشرعيين يستقل به الخضرى بك، و الأخر لتخريج المعلمين يتولى التدريس فيه الإمام و يعاونه الشيخ الطباخ.

و كان الإمام يؤلب الناس ضد الاحتلال البريطانى، و من دعائه الذى كان يدعو به أن يهلك الله الظالمين بالظالمين و الكافرين بالكافرين و أن يخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين، و ظل على ذلك إلى أن حيل بينه و بين مزاولة عمله كأستاذ لمادة الشريعة الإسلامية بكلية غردون لأسباب سنعرض لها فيما بعد.

و قد كان الإمام حتى و هو بالخرطوم يحقد عليه الحاقدون من بعض علماء و مشايخ مصر، و قد كان الإمام فى زيارة لبلدة آبا الوقف بمصر أثناء العطلة الصيفية وأمضى بها أسبوعاً، و بعد سفره إلى السودان قام أحد العلماء بإلقاء خطبة الجمعة بمسجد سيدى إبراهيم الشلقامى بآبا الوقف و أخذ يطعن فى الإمام طعناً شديداً. و أثناء ذلك إذ بالإمام و هو بالسودان يملى قصيدة فى التو والحال فيقول رضوان الله عليه:

تأدب فسيف القوم ماض مجرد           يقومـه شهـم بطه مؤيد

إذا ما دنا لله يومـاً بـطرفـه           تلبيه أملاك السماء وتنجد

و إذ بخطيب المسجد هذا يقع من على المنبر ولا يستطيع الحركة بعد ذلك. إن الله غيور على أحبابه وغيور على أوليائه، ومن عادى لله ولياً فقد آذنه الله بالحرب، ولكنها أسباب تأخذ مقتضاها، و إن من أمة رسول الله محدثون- أى تحدثهم الحقائق- كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

و كان رضى الله عنه يعظ ويبشر، فهدى أناساً كثيرين منحوا القابل فتلقوا هذا الفيض المقدس الذى أثمر فى أرض النفوس الطاهرة، وكان يدرس فى الخلوة علوم السادة الصوفية لمن صحبوه فكان لهم الحظ الأوفر فى تزكية نفوسهم على يديه سماعاً من درره المنثورة و حكمه المضنونه وأسراره الغامضه فى تلك العلوم.

و فى إحدى حلقات دروسه بالمسجد الكبير بالخرطوم تكلم بمعانى عاليه راقية أدهشت السامعين، مما دعا أحدهم إلى مقاطعته قائلاً: كلام من هذا يا مولانا؟ هل هو كلام سيدى عبد القادر الجيلانى؟ فأشار إليه بيده وقال: انتظر يا بنى- ثم واصل الجديث و أتى ببيان عجيب مما تقدم، فلم يتمالك الرجل نفسه و قال: كلام من هذا يا مولانا؟ هل هو كلام سيدى محى الدين بن عربى؟ فقال انتظر يا بنى- ثم واصل الحديث، وعلا بالعبارة حتى أسكر الحاضرين و أخذ بمجامع القلوب، فما كان من

الرجل إلا أن وقف منبهراً و قال: كلام من هذا يا مولانا؟ هل هو كلام سيدى أبو الحسن الشاذلى؟ فقال: رضوان الله عليه سائلا: يا بنى: من الذى أعطى الشيخ عبد القادر الجيلانى؟ قال الله، فقال: و من الذى أعطى سيدى محى الدين بن عربى؟ قال الله، فقال:  و من الذى أعطى سيدى أبى الحسن الشاذلى؟ قال الله، فقال رضوان الله عليه: هل عطاء الله مقطوع أم ممدود؟ قال ممدود، عندئذ قال الإمام: إن الذى أعطى الجيلانى و الذى أعطى ابن عربى و الذى أعطى الشاذلى هو الذى أعطانى. ففهم الحاضرون أن عطاء الله لأحبابه و أوليائه لا ينقطع ما دامت السموات والأرض لأن خزائنه عز و جل لا تنفد، و إنما ينزل منها على أحبابه و أوليائه بقدر ما يناسب عصورهم و أزمانهم وحاجة تلك الأزمان  .

و فى برى حدثت حادثة مشهورة، و هى أن الإمام رضوان الله عليه كان بمنزله يلقى درساً خاصاً لعلماء السودان. و أثناء الدرس خرج أحدهم ثم عاد يلهث من شدة الجرى و قد اعتراه خوف وهلع شديد، فخرج الإمام من الدرس وأخذ يهدىء من روعه، فأخبره أنه رأى على البعد أسداً فولى منه هارباً فلحقه الأسد على بعد خطوات قليله من باب المنزل. ففتح الإمام الباب و الجميع يشاهدون، و واجه الأسد فطأطأ رأسه و هز ذيله، فقال الإمام: ألم أقل لك لا تقترب من ضيف لنا؟؟ اذهب وسيرزقك الله.. فانصرف الأسد.. و أمام دهشة الكل قال الإمام: أيها الرجل زينتم ظواهركم فخفتم الأسد، و زيّنا بواطننا فخافنا الأسد.

و لعل أحد يتعجب من ذلك، ولكن صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال: (من خاف الله خوف الله منه كل شىء)  [2].

و قد مرت أحداث مثل هذه لبعض الصحابة و التابعين رضوان الله عليهم أجمعين، نذكر منها هذه النماذج:

  1. روى عن سيدنا سفينة رضى الله عنه أنه لما بعثه النبى صلى الله عليه وسلم برسالة خرج مسافراً وسط البوادى، فخرج عليه أسد، فتقدم منه سيدنا سفينه و قال له: أنا رسول رسول الله، فطأطأ الأسد رأسه وهز ذنبه و انصرف.
  1. و عند فتح شمال أفريقيا بقيادة عقبة بن نافع، فقد روى أنه حين وصل بالجيش إلى الشاطىء الآخر وجد الأسود و الوحوش رابضة فى مكانها، فتقدم منها وأمرها أن تنصرف بإذن الله فانصاعت لأمره، حتى كانت اللبؤة تأخذ أولادها فى أسنانها و تهاجر إلى مكان بعيد حتى خلا المكان لجيش المسلمين، حيث بنى مدينة القيروان التى فتح من خلالها كل شمال أفريقيا.
  2. و غادر الإمام السودان فى عام 1915 عائداً إلى مصر قبل أجازته السنوية بشهر، بعد أن ربى رجالاً بالسودان جاهدوا فى الله حق جهاده، عرفوا أنفسهم فعرفهم الله بصفاته العلية، و أطلعهم عز و جل على أنواره القدسية، وأفاض عليهم من علومه الوهبية وأسراره الحكمية ما تعجز عنه العبارة و لا تفى به الإشارة.

و كان الإمام يعلم أنه بسفره هذا لن يعود إلى السودان، فصارح خاصة خاصته بذلك ووزع عليهم مهامهم فى الدعوة. و قد تكتم خبر عدم العودة. عن العامة حيث كانوا يودعونه فى سفره و هم لا يعلمون أنهم لن يرونه مرة أخرى بالسودان.


[1]    جاءت التسمية تخليداً لذكرى اللورد غردون آخر حاكم عام للسودان فى عهد الحكم التركى الذى سبق الحكم المهدى. و قد قتله أنصار المهدى عند فتحه للخرطوم عام 1885م.

[2]    أبو الشيخ فى كتاب (الثواب) و المنذرى فى الترغيب و الترهيب.