مع السيدة زينب عليها السلام

28/02/2022
شارك المقالة:

        لقد شرف الله تعالى مصر بأن جعل فيها فروعا - بل أصولا - من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأكرمنا بهم وأمَّننا بهم، وذلك هو الرباط الذي اتسم به أهل مصر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا فتح اللهُ عليكم مصرَ فاتِّخذُوا بها جندًا كثيفًا، فذلك الجندُ خيرُ أجنادِ الأرض, قال أبو بكر: لم يا رسولَ الله؟، قال: لأنهم وأزواجُهم في رباطٍ إلى يوم القيامة).

        وكيف لا؟؛ وأهل البيت هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بنص قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) "الأحزاب:33"، وهم الذين أوجب الله علينا محبتهم سر قوله سبحانه: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) "الشورى:23، ولما سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن القربى قال: (قرباي) "حلية الأولياء".

        بل إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا أن نربي أولادنا على محبتهم فقال: (أدبوا أولادَكم على ثلاثِ خصالٍ: حب نبيِّكم، وحب آل بيته، وتلاوة القرآن، فإن حملة القرآن في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله)"الديلمي".

        ولكن لماذا؟.

        لأنهم تجملوا بالجمال المحمدي، وتخلقوا بأخلاقه، وتأدبوا بآدابه، قال الإمام عليّ واصفا أهل البيت: (هم عيش الحق، وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، هم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق إلى نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية، فإن رواة العلم كثير، ورعاته قليل).

        وسيدتنا السيدة زينب عليها السلام فقيهة الدين، عارفة الأحكام، صادقة الحديث، حفيدة سيد النبيين وحبيب رب العالمين، التي أشرقت الأرض بطلعتها وبمولدها في السنة الخامسة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم؛ وبعد انتصاره صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة الأحزاب.

        وما إن وضعت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام وليدتها الكريمة حتى قالت أسماء بنت عميس زوجة سيدنا جعفر بن أبي طالب - وقد حملتها بين يديها -: (يا ابنة رسول الله، إنها شبيهة بك في جمال الخلقة وحسن التكوين، بل إن جمال النبوة لمجسم في هذه المولودة، وما أشبهها بأخيها الحسين).

يا بنتَ خير الرسل طه المصطفى       وافاك مشتاقٌ يروم الاصطفــــــــــــــــــــــــا
يا بنتَ خير الرسل جئتُك قاصدا       أرجو القبولَ وألتمس منك الوفــــــــــــا
يا زينب الإحسان يا كنز العـــــــــطا        وُدًّا به أحيا سعيدا في صفـــــــــــــــــــــــــــا
يا زينب الإحسان أنت وسيلتـــي         بشرى بها يأتي الصفا يُمحى الجفا
يا زينبًا يا بنتَ بنتِ المصطفــــــى         وافاك فرعٌ يرتجي منك الصفــــــــــــــــا

أنت الوسيلةُ يا ابنة الزَّهْرَا لمـــــن         قد جاء يرجــــــــــــو ود آل المصطفى

        فحمِدَت الله تعالى ثم قالت للإمام عليّ عليه السلام: سم هذه المولودة، لكن شاء الله إلا أن يسميها رسولُ اللهِ كما فعل مع أخويها الحسن والحسين عليهما السلام، فقال الإمام عليّ: ما كنتُ لأسبق رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان رسول الله في سفر، فلما عاد صلى الله عليه وآله وسلم سأله الإمام عليّ عن اسمها فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما كنتُ لأسبق ربي تعالى)، فهبط جبريل الأمين يُقرِئُه من الله السلام ويقول له: (سم هذه المولودة زينب).

        وزينب بمعنى الفتاة القوية الودود العاقلة.

        ثم أخبره بما يجري عليها من المصائب، فبكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (من بكى على مصاب هذه البنت كان كمن بكى على أخويها الحسن والحسين).

 

        ونشأت عليها السلام في أطيب بيئة، وانحدرت من أطيب معدن، تحيط بها أنوار الرسالة والنبوة، فشبت كريمة في أخلاقها، طيبة في شمائلها، شريفة في طباعها، فكانت عليها السلام عزيزة النفس، لا تقيم علي مذلة، ولا تسكت علي غضاضة، ولا ترضي بهوان .

        لقد عاصرت جدها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم خمس سنوات قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى.

         وتشربت من أبيها عليه السلام الكثير من الفصاحة والعلم، فكانت البليغة في قولها، القوية في حجتها، إذا تحدثت: خفقت الأفئدة لسماع صوتها، وإذا خطبت: اهتزت القلوب بتأثير عباراتها، وخشعت الأبصار لهيبتها، وفاضت الأعين من الدمع تجاوبا معها ورحمة لها .

         وقد تنبأ لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها ستكون مولودة سعيدة طاهرة مباركة، وأنها ستكون من فضليات النساء المؤمنات، وقد كانت عليها السلام كذلك.

        لقد درجت فى بيت النبوة، ونشأت نشأة كريمة طيبة، يحوطها جدها العظيم وأبواها بعنايتهم وشفقتهم، وأخذ أبوها يعلمها ويثقفها - شأنها شأن كل من درج في بيت النبوة -، فلقنها العلم والحكمة والخلق والدين والفقه والأدب، ورواها الأحاديث والأخبار ، وبث فيها من روحه الشجاعة والإقدام وقوة اليقين، فتهيأ لها العقل الراجح، والرأي الناصح، وقوة الجنان، والثبات والإيمان.

        ومما يذكر أنها وهي في طفولتها كانت جالسة في حجر أبيها وهو يلاطفها:

        فقال لها: قولي واحد.

        فقالت: واحد.

        فقال لها: قولي اثنين. فسكتت.

        فقال لها: تكلمي يا قرة عيني.

        فقالت: يا أبتاه؛ ما أطيق أن أقول اثنين بلسان أجريتُه بالواحد.

        فضمها أبوها كرم الله وجهه، وقبَّلها بين عينيها.

        كما يذكر أنها سألت أباها فقالت:

        أتحبنا يا أبتاه؟.

        فقال: وكيف لا أحبكم وأنتم ثمرة فؤادي.

        فقالت: يا أبتاه، إن الحب لله تعالى، والشفقة لنا.

        والمتأمل في هذا الكلام يرى فيه علما جما؛ يبيّن مقدار منزلتها في العلم والمعرفة، كما يدل على أنها كانت محدثة ملهمة، وأن علمها من العلوم اللدنية والإلهامات الربانية.

        رأت أمَّها السيدة الزهراء عليها السلام تقوم في جوف الليل والناس نيام؛ عابدة متهجدة راكعة ساجدة، فكانت السيدة زينب عليها السلام - ولم يكتمل سنها خمس سنوات - تنهض من فراشها وتسبغ وضوءها وتصلي بصلاة أمها، فإذا ما انتهيا من صلاتهما ضمتها أمها الزهراء إلي صدرها الحنون ودعت لها بدعوات صالحة قائلة: (جعل اللهُ فيكِ الخيرَ وفي أبنائك البررة الأتقياء).

 

زينب الفضل يا ابنة الزهــــــــــــــــــراء      أنت لا شك مصـــــــــدر الآلاء

شمس حق قد أشرقت وأضاءت      في سما مصر بالصفا والهناء

 

        وكان الإمام الحسين عليه السلام يعلم منذ طفولته بما قدر له، كما كان دور أخته السيدة زينب عليها السلام حديث القوم منذ ولدت.

        فقد ذكر أن سلمان الفارسي رضي الله عنه أقبل على الإمام عليّ يهنئه بوليدته، فألفاه واجما حزينا، يتحدث عما سوف تلقى ابنته في كربلاء، وبكى الإمام عليّ الفارس الشجاع ذو اللواء المنصور والملقب بأسد الإسلام ([1]).

        ولم تظفر صبية بمثل ما ظفرت به السيدة زينب في تلك البيئة الرفيعة من تربية عالية، ولكنها لا تكاد تشب عن الطوق حتى يقال إنها عرفت النبوءة الأليمة: فقد قيل إنها كانت تتلو شيئا من القرآن بمسمع من أبيها، فبدا لها أن تسأله عن تفسير بعض الآيات، ففعل، ثم استطرد متأثرا بذكائها اللامع، يلمح إلى ما ينتظرها في مستقبل أيامها من دور ذي خطر، وأدهشه عليه السلام ما بدا منها حين قالت له السيدة زينب في جد رصين: أعرف ذلك يا أبي ... أخبرتني به أمي كيما تهيئني لغدي، ولم يجد الأب ما يقول، فأطرق صامتا وقلبه يخفق رحمة وحنانا ([2]).       

        والعجب كل العجب في شأن أهل البيت!!!، فإنهم بمجرد ميلادهم؛ يُذكر ما يجرى عليهم في حياتهم من مصاعب ومصائب، فتختلط البهجة والسرور بموجبات الحزن والأسى، لكنهم يرضون بقضاء الله وقدره، ويعيشون في حياتهم كأنهم لم يُخبَروا، وكما قال الإمام الحسين عليه السلام: (أمرنا أن نساعد القدر).

 

        تزوجت عليها السلام مَن لُقِّب بالطيار أبوه، تزوجت سيدنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الذي كان أول مولود للمسلمين في هجرة الحبشة، وقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحبه حبا جما، استشهد أبوه في مؤتة في حرب الروم، وعندها قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (رأيتُ جعفرا يطير في الجنة مع الملائكة، لأنه قاتل حتى قطعت يداه فعوَّضه اللهُ من يديه جناحين يطير بهما حيث شاء) "الطبراني".

 

        ومع ما وهبها الله من علم وحكمة؛ فقد وهبها الشجاعة والحلم والصبر واليقين، فها هو الإمام الحسين يبكي يوم اللقاء في كربلاء – انظروا أيها الأحباب فيم كان يفكر أهل البيت في أحلك الظروف وأشد المواقف – لما أن بكى تسأله السيدة زينب عليها السلام: أتبكي خوفا من لقاء الله؟، فيقول لها: لا والله يا أختاه ما أبكي خوفا من لقاء الله، ولكن أبكي حزنا على أربعة آلاف يقتلونني فينالون عقاب الله بسببي.

        وانظر إليها وهي تقف عند أخيها الإمام الحسين عليه السلام بعد استشهاده وتقول: اللهم تقبل منا هذا القليل من القربان.

        ولما ذهبت إلى ابن زياد بعد ذلك قال لها متشفيا: كيف رأيت صنع الله في أهل بيتك وأخيك؟.

        فقالت بعزة وشجاعة أهل بيت رسول الله: ما رأيت إلا خيرا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم... إلى آخر قولها عليها السلام.

        ومما قاله لها: الحمد الذي فضحكم وقتلكم وكذب أحدوثتكم!!.

        فأجابته علي الفور: بل الحمد الله الذي أكرمنا بمحمد صلي الله عليه وآله، وطهَّرَنا تطهيرا، لا كما تقول، وإنما يفضح الفاسق؛ ويكذب الفاجر.

        ورغم أنه ينبغي للخطيب أن يركز جميع مشاعره وحواسه ليتمكن من توضيح مقصوده؛ إلا أن السيدة زينب عليها السلام - وبعد تلك المصائب العظيمة - استطاعت أن تتحدَّث وبكل شجاعة وصلابة، وهذا يدل على ارتباطها المعنوي بعالم الملكوت الأعلى كما كانت أمها الزهراء عليها السلام.

        وبعد مشقة وعناء عاناه البقية من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قررت السيدة زينب أن تبعد عن ظلم بني أمية، فاختارت مصر لتكون مقرا لها، فحضرت في سنة 61هجرية.

        وهناك في منطقه بلبيس كان أبناء مصر قد جاءتهم الأخبار بأن السيدة زينب عليها السلام ستشرف ديارهم، فسروا بذلك سرورا شاملا.

       

        ولذلك خرج والي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري ومعه جمع كبير من العلماء والأثرياء والقضاة وأصحاب المكانة في البلاد فكانوا في استقبال السيدة زينب عند وصولها، فأظهروا من الحفاوة بها والترحيب بمقدمها ما أقر عينها، وجعلها تحمد الله كثيرا، إذ لا يزال في الأمة ناس يعرفون لأهل البيت حقهم، ويقومون بما ينبغي لهم من تحية وتكريم.

        وكانت عليها السلام أول سيدة من نساء أهل البيت تطأ مصر وتشرفها، وعلى إثرها جاءت السيدة نفيسة العلم والسيدة عائشة والكثير من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد.

 

        وانتقلت عليها السلام إلى الرفيق الأعلى سنة 62 هجرية.

 

أنت يا بنت البتــــــــــول وسيلتي     للحبيب المصطفى في بغيتي

جئت أرجو فضل ربي والندى     والعواطف من رسول الرحمـــة

              وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا

 

 

[1] - تراجم سيدات بيت النبوة – عائشة عبد الهادى (بنت الشاطئ)

[2] -  تراجم سيدات بيت النبوة – عائشة عبد الهادى (بنت  الشاطئ)