التجديد الدينى فى القرن الرابع عشر الهجرى ( عصر الإمام )

05/03/2021
شارك المقالة:

إن  الكون  منذ  بداية  الخليقة كان يتأهل لظهور النبى والرسول الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ويمكن القول إنه بظهور البعثة المحمدية  . .  فقد  فتحت  جامعة  خاتم  الأنبياء والمرسلين بابها على مصرعيه لكل من على الأرض لأن الله  قد  أرسله  للناس  كافة  بشيراَ ونذيراَ .

 ويمكن  القول أيضاَ إن الكون من حيث التأهيل العقلى لبعثة الرسالة الخاتمة تدرج كما يأتى :

1- من عهد سيدنا آدم إلى عهد سيدنا نوح كان كمدرسة ابتدائية .

2- ومن عهد سيدنا نوح إلى عهد سيدنا إبراهيم انتقل الكون إلى مدرسة إعدادية .

3- ومن  عهد  سيدنا  إبراهيم  إلى عهد سيدنا عيسى ارتقى الفكر الدينى عن ذلك ففتح الكون مدرسته الثانوية .

4- وبعد  أن  مهد  الكل  لظهور  بعثته  صلى  الله عليه وسلم ، فتحت الجامعة الكلية أبوابها بمختلف كلياتها وشعبها وتخصصاتها ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم  حجر  الأساس للعقيدة الحقة والعبادة الخالصة والمعاملة الحسنة والأخلاق الفاضلة ، وظل  رسول  الله  صلى الله عليه وسلم يرتقى بالأمة الإسلامية حتى تمم لها مكارم الأخلاق  مصداقاَ  لقوله  صلى  الله عليه وسلم :

( إنما  بعثت لأتمم  مكارم الأخلاق )[1]. وبعد أن اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة وتطبيق المنهج قال : ( إنما مثلى ومثل الدنيا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها ) [2]، وبذلك تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، ثم قال : ( إن عبداَ خير فيما عند الله وما عند الناس فاختار ما عند الله ) واختار الرفيق الأعلى .

 إن  الله  لم  يطل  فى عمر حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم بالرغم من أنه داعى الخير الأعظم ، وعلى جانب الشر فقد أعطى الله تعالى إبليس النظرة إلى  يوم  الوقت  المعلوم  بناء على طلبه ، ولذلك فقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم  من  ربه  أمرين  وهما : القرآن ، ومن يقوم بالقرآن .. فأمنه ربه فيهما .

1- لقد  طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه ضماناَ للقرآن حتى لا يحرف ولا يبدل . إذ لاكتاب بعده ليصحح كما صحح القرآن ما قبله من التوراة والإنجيل ، فطمأنه ربه بقوله : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [3]، وقال  تعالى أيضاَ له : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه )[4] إلى آخر الآيات التى تدل على ذلك .

2- ولما  اطمأن  رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكتاب طلب من ربه من يقوم بالكتاب بياناَ وتبياناَ فقال له : ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) [5].

  ولما  نزلت  هذه  الآية  وسئل  عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها ) [6]، وبناء على هذا الحديث فإنه يظهر  فى الأمة من يجدد الله به ما اندرس من معالم الدين وما خفى من سبل أهل  اليقين ،  وقال  صلى الله عليه وسلم : ( العلماء ورثة الأنبياء ) [7] وقال أيضاَ : ( علماء أمتى كأنبياء بنى  إسرائيل ) [8]. والعلماء لا يورثون درهماَ ولا ديناراَ ولكنهم يورثون  العلم  والهدى  والرحمة ،  وهذا الميراث لا يفنى ولا يبلى ، وهو المعنى بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( تركت  فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبداَ: كتاب الله وسنتى ) [9]، ودليل عدم الفصل  بين  الكتاب والسنة قوله : ( به ) وليس (( بهما )) ، فالكتاب والسنة منهج واحد ، والميراث واحد ،  وهى التركة المشار إليها بـ : تركت فيكم .

 إن الله قد حفظ رسول الله فى أمته بأمته وبورثته ، فقال لنا مبيناَ ذلك :

( واعلموا  أن  فيكم رسول الله ) [10]، وقال : ( وفيكم رسوله )[11] ، ولم يقل وفيكم محمد .. فلم يناده باسمه فى القرآن أبداَ إظهاراَ لعظمة مقامه ، بل بوظيفته الخالدة التى لن تموت أبداَ .

 حفظ الله رسوله فى أمته بأمته وبورثته ، فأخبرنا صلى الله عليه وسلم منبها عقولنا عن  ذلك بقوله  : ( حسين  منى  وأنا  من  حسين ) [12]، وقال  له ربه  فى  كتابه  العزيز  : ( وتقلبك فى الساجدين ) [13]، أى تقلب أنوارك وعلومك وحكمك وسنتك فى الساجدين ، فكم  من  ساجد لا يتقبل الله صلاته ، ولكن السجود هنا لمن سجد ظاهره وباطنه لله ، والعبد إذا سجد بقلبه  لله فلن يرفع أبداَ وإن تقلب فى دنيا الناس لكن حقيقته ساجدة لله ، وهذا ما يعنيه ربنا فى  قوله  : ( والذين  يبيتون  لربهم  سجداَ  وقياماَ ) [14]، أى  قلوبهم ساجدة لله عند مبيتهم وحقائقهم قائمة بقيومية  الله  وقياماَ  بحق  العبودية  له سبحانه وتعالى ، ولذلك كان سيدنا على بن أبى طالب رضى الله عنه وكرم الله وجهه يقول :

( اللهم  لا  تخلو  الأرض  من  قائم لك بحجة ، إما ظاهراَ مشهوراَ وإما باطناَ مغموراَ ) [15].

وصدق  الله  العظيم  فقد  قال  له  : ( ولكل قوم هاد ) ؟ أى يهدون بأمر الله من بعدك وعلى نهجك وسننك ، وهم الأئمة والورثة والعلماء العارفون بالله تعالى  وبأيامه  وبأحكامه  وبحكمة أحكامه تبارك وتعالى .

والورثة  ألوان  مع  اختلاف المراتب والمنازل ، ولكل عالم قسط من الميراث على قدر سعة قلبه وتزكية نفسه واتصال روحه بأصلها ( هم درجات عند الله ) [16]،  فالميراث   موزع  بين علماء الأمة ، ولذلك وبإيجاز شديد تنقسم الوراثة إلى أربعة أصناف :

1- ورثة الأقوال : وهم حملة الشريعة الأمناء الممنوحون الفهم .

2- ورثة الأعمال : وهم العمال الورعون .

3- ورثة  الأحوال  : وهم  أهل  المواجيد  الروحانية  الصادقة  الذين  يعيشون بيننا بأبدانهم وأرواحهم فى الملأ الأعلى .

4- الوارث  الفرد  الجامع :  وكل صنف من الثلاثة السابق ذكرهم يتبعه مجاميع كثيرة ، أما الصنف  الرابع  فهو  فرد  واحد على رأس كل مائة عام ، ورث الأقوال والأعمال والأحوال وراثة كاملة ومنح الزيادة ، وهو المعنى بقول الحق سبحانه وتعالى : ( ولكل قوم هاد ) ، أى أن الكل ورثة  بقدر مراتبهم ومقاماتهم وبقدر ما أهلوا له روحياَ وعلى رأسهم فرد قمة .

وكان إمام العصر ينضم تحت لوائه أفراد يكرمهم الله بمعرفته ، فكما  يذكر  الإمام  الشعرانى فى كتاب الطبقات الكبرى فى باب الأولياء أن من أكبر الدلائل  على  إمامة  الوارث  الأكمل لعصر من العصور أن يسلك على يديه علماء ربانيون ورثة للأنبياء ، وكم انضم  تحت  لواء الإمام أبى العزائم رجال أفراد كمل ليتجملوا على  يديه  ويمنحوا  من  ربهم  المزيد ،  تركوا دنياهم ومناصبهم الدينية العالية ليدخلوا إلى حضرته تلاميذاَ يتعلمون من جديد .

وقد  ورد فى الأثر فى فضل العماء أن دماء الشهداء يوزن ومداد العلماء يوزن ، فيرجح مداد العلماء ، لأن الشهيد . ضحى بدمه فى سبيل إرساء قواعد الدين ، والعلماء  جاهدوا  بألسنتهم وقلوبم وتلك هى صفة الأنبياء كما أخبر صلى الله عليه وسلم : ( إنما بعثت معلماَ ) [17]، ولذلك فقد ورد عن الإمام الشافعى رضى الله عنه وأرضاه أنه كان يطلب من  تلميذه الربيع  الجيزى أن يحتفظ بمخلفات برى أقلامه البوص حتى كوم منها أكواماَ كثيرة وهو لا  يدرى  ما  يريده الإمام من ذلك ، إلى أن جاء الوقت الذى أملى فيه الإمام وصيته ، فطلب منه أن يجعل من هذه المخلفات الوقود لتدفئة ماء غسله رضى الله عنه ، وهذا سر قول الله تعالى : ( ونكتب ما قدموا وآثارهم ) [18].

والورثة هم الأئمة القائمون ، وفيهم يقول الإمام :  أئمة  الهدى هم الروح السارية فى الجسد الإسلامى ليحيا حياة طيبة عاملاَ لله ولرسوله صلى الله عليه  وسلم ، وهم  خلفاء  رسول  الله صلى الله عليه وسلم الذين يحفظ الله بهم  شريعته  ويعينهم فيسيرون  فى الناس بسيرة رسول لله صلى الله عليه وسلم محافظين على الأحكام من أن  يغيرها أو يعمل  بخلافها  المفسدون . وهم على يقظة تامة بحراسة الشريعة المطهرة وتعظيم شعائر الله  تعالى وإقامة حدوده سبحانه والمسارعة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهم الذين يمنعون الجاهلين من أن يسيروا بغير  سيرة رسول  الله صلى الله عليه وسلم خوفاَ من ضياع الشريعة وفساد جماعة المسلمين بما  يقوم  به  أهل الضلال  بين  العامة  فيغيرون  أحكام لله تعالى بالبدع والضلالات بآرائهم الفاسدة وعقائدهم الزائغة بالكيد والخديعة التى يخدعون بها قلوب العامة فيخرجونهم من حصن الشريعة المطهرة ويوقعونهم فى مساخط الله تعالى ومخالفة رسول الله صلى الله  عليه وسلم ، وهؤلاء  الأئمة  بهم  قوام  الدين  وحياة  الشريعة وحفظ أركانها ، قال سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه : ( ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن ) .

إذا  تهاون  أئمة المسلمين فى القيام بواجبهم تمكن الخوارج المفسدون من الأمة فأفسدوا العامة وشغلوا الخاصة ، وإن  الخارج على المسلمين بسيفه أخف ضرراَ عن الخارج بعقيدته الزائغة ورأيه  المفسد ، لأن القلوب  تميل  إليه  فيتفرق  المسلمون بعضهم على بعض، لأن الأمة ما اتحدت على الحق فإن الله معها ورسول الله صلى اله عليه وسلم معها ، ومتى  اختلفت  الأمة التفت الله بوجهه الجميل عنهم ووكلهم إلى أنفسهم – قال تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعاَ ولا تفرقوا ) [19].

ويقول عنهم أيضاَ : وورثة الرسل  صلوات الله على نبينا وعليهم هم الذين أثنى الله عليهم فى كتابه  العزيز ، وهم  الراسخون  فى  العلم  ، آمنوا  بكل  الكتاب وسلموا لله متشابهه وعلموا بمحكمه  وأقبلوا على  الله  تعالى بقلوبهم ملتفتين عن الدنيا بالكلية وعن الآخرة . ولولا أن الله تعالى  رغبهم  .. لما  رغبوا فيها .. وهم نوعان : نوع تولاهم الله فجذبهم إليه  به جل جلاله وملأ قلوبهم علماَ به وخشية منه وهم أصفياء الله السابحة قلوبهم فى ملكوت الله تعالى ، تراهم على  الآرض  مع  الناس وقلوبهم فى الرفيق الأعلى ، انكسرت قلوبهم من خشية الله فصمتوا إقبالاَ على الله بالقلوب والجوارح وغابوا عن الكون الأدنى بالكون الأعلى وعن الكون الأعلى بالعلى  العظيم  . صغرت  الدنيا  فى قلوبهم فنظروا إليها بعين ملؤها البغض فيها والزهد فى زينتها  ،  سقاهم  ربهم  شراباَ  طهوراَ  فغابوا عن  أنفسهم بعد معرفتها غيبة ذكرتهم بنشأتهم الأولى  والأخرى  فكانوا  إذا  لحظوا  أنفسهم لحظوا عدماَ وطنياَ أو ماء مهيناَ وشهدوا النعمة للمنعم  والفضل للمتفضل والوجود بالله ، والحياة بالحى والقيام بالقيوم ، فكان الحق جل جلاله معالم بين أعينهم لا يغيبون إذا غاب الناس ولا يحجبون إذا حجب الناس ، وهم أولياء الله حقاَ وأصفياؤه  صدقاَ ، وهم ورثة رسله وأبدال أنبيائه والصديقون من عباده رضى الله عنهم [20] .

 ويقول  عن وظائفهم : ووظيفة ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم معالجة النفوس الجامحة إلى  الغواية  وتزكيتها  من  أدران  الأخلاق  الفاسدة وتطهيرها مما ألم بها من فساد الوهم أو اختلال الخيال أو الهبوط إلى أفق البهيمية لعدم تناسب الأعضاء أو الإخلاد إلى الأرض بسبب ما  اكتسبته  النفوس  من المجتمع  الذى  نشأت بينه فتراهم دائماَ يميلون إلى أهل المعاصى ، ويألفون  أهل  الأخلاق  التى  ليست  على  الوسط  بما وهب الله تعالى لهم من الحكمة والعلم بأمراض  النفوس ، ولذلك فقد  قال  سيدنا عيسى عليه  السلام عندما أنكر عليه اليهود صحبة الأشرار له : إنما أنا طبيب ، وإنما يميل الطبيب إلى المرضى ، وكذلك العلماء بالله  تعالى هم أطباء النفوس [21] .

ومن وظائفهم أنهم يبينون للنفوس سبيل الله تعالى لأنهم سرج الدنيا ومصابيح الآخرة فهم النور الذى تستبين به محجة الله تعالى وتقوم به حجته سبحانه، وكما أن الشمس تبين محجة المنافع وطرق المواصلات لنيل الخيرات من زراعة وتجارة وإمارة وغير ذلك، فكذلك أهل المعرفة بالله شموس تنبعث منها الأنوار التى تستبين بها طرق الله تعالى ويظهر بها الصراط المستقيم . وهم أنفع للمجتمع  من  شمس  النهار المشرقة ضحوة ، لأن الشمس تبين طرق الأرض وهم يبينون طرق الله تعالى الموصلة إلى الخير الحقيقى والسعادة الدائمة ، وشتان بين الشمس التى توصل إلى المقصود التى نهايتها الموت وبين شمس توصل إلى المقصد الأعظم الذى هو رضوان الله تعالى والفوز بجواره فى مقعد صدق عند مليك مقتدر .

ولما  كانت  هذه  الوظيفة  هى  أعظم  وأجل وأنفع الوظائف للمجتمع ، كان لهؤلاء القوم فى القلوب محبة وهيبة .. ويخضع لهم ذو جلال ، يهابهم السلطان ويحبهم المؤمنون ويتوسل بهم العامة .. كل ذلك لما جملهم الله تعالى به من الأخلاق الجميلة والرحمة والرأفة ولين الجانب ، ولما  أطلق  به  ألسنتهم  من الحكمة والموعظة الحسنة ، ولأن النفوس لها ميل إلى القوة التى فوق الأسباب وقد فطرت على التقرب إلى الله تعالى بأهل التقوى ، فنرى جميع  النفوس تحب المتقين وخصوصاَ المبالغين  للعزلة  عن الناس المشغولين بذكر الله تعالى ، الزاهدين فيما فى أيدى الناس من أهل الصفاء والإقبال على الله بالكلية .

ولا  يعترض على معترض فيقول : إن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم عاداهم أهل الكفر بالله تعالى ، فأجيبه أن رسل الله صلوات الله عليهم تحدوا الناس بدين الله تعالى وأقاموا الحجة على الخلق بما جاءوا به من عند الله تعالى وعرضوا أنفسهم على العالم وبينوا للناس عاقبة ما هم  عليه  من  الضلال  والكفر  بالله  تعالى ، فكان ذلك موجباَ لمعاداتهم ، أما أهل الصفا من أولياء الله تعالى فإنهم لم يكلفوا بالتحدى ولم يطالبوا بدعوة الناس إلى الحق لفرارهم من الخلق وإقبالهم على العبادة والتنسك ، ولكن الناس يألفونهم ويتقربون إليهم لافرق بين المسلم  والكافر لا  لطلب  العلم  فقط  بل  لأغراض  أخرى ، يعتقدون  أن  الله  تعالى ييسرها لهم ببركتهم ، وباجتماع الناس عليهم يشرح الله صدورهم لما  يسمعونه من  العلوم التى  تزكى النفوس إلى الاستقامة  أو  إلى  الإسلام ، وكم أسلم مشرك على أيديهم وكم استقام عاصى واهتدى فاسق . ولا  عجب  فإن  الله تعالى  يلقى  محبة منه على من اجتباهم من عباده بقدر ما يوفقهم له من القربات ومن إقبالهم بظاهرهم وباطنهم على الله تعالى ، فإذا منحهم الله  لسان البيان  والحكمة وبلغ أحدهم من المقامات ما صار به وارثاَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان من التمكين بحال  به  يحبه  أهل  الإيمان والتقوى ، وكان ممن قدر الله لهم السعادة ، فيبغضه أهل النفاق والكفر ، فيكون لهم قسط وافر من سر الأنبياء وسيرهم صلاة الله  وسلامه على  نبينا وعليهم وهم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمناء الله تعالى على شريعته .

إننا  نتكلم  عن  أئمة  الهدى  الذين  يظهرهم الله بتجدد الأزمنة فيقومون كالأنجم المضيئة فى المجتمع  الإسلامى ، إما  بقول وعمل كالعلماء ، وإما بعمل وحال كالعباد الزهاد ، وإما بحال ومجاهدة جامعة وبيان كورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس برجل من لم يكن  منهم أو معهم .

ومعلوم أن الرسل صلوات الله عليهم لم يورثوا درهماَ ولا ديناراَ ولا كنوزاَ ولا عقاراَ ، وإنما ورثوا  هدى  ونوراَ وبياناَ وأخلاقاَ طاهرة ومعاملة لله خالصة ورحمة على الخلق وحناناَ ولما كانت النفوس  تتفاوت جواهرها استعداداَ وقبولاَ ، وكان نيل هذا الفضل العظيم إنما هو بفضل الله  تعالى ، وكان  من  أعظم الفضل  ظهور وارث لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومتى تفضل الله تعالى على العالم بوارث دل ذلك على عميم إحسانه على  أهل عصره ، ولكن  لابد هنا من الميزان الذى يزن به السالك نفسه ويزن به غيره .

ومعلوم أن الاتصال بالوارث المحمدى سبب لفهم كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى  الله عليه وسلم ، وتزكية النفس ، وتعليم مالم يعلمه الإنسان بالدراية وطول الدرس والمذاكرة  كما  قال الله  تعالى : ( يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم  مالم  تكونوا تعلمون ) [22]  فما من سالك مع الوارث إلا ويهبه الله قسطاَ من تلك المعانى ، وتلك العطية تمنح  بفضل الله وتحفظ ويحصل النفع بها بأمرين عظيمين :

     الأمر الأول : الأدب مع من جعله الله سبباَ لهذا الخير .

     الأمر الثانى : شكر الله على  تلك  النعمة  الذى  به  المزيد  مع مجاهدة النفس خوفاَ من         الغرور بنسيان المرشد .

العلماء  الربانيون  والراسخون  فى  العلم  وهم  النور المشرق المبين لمناهج القرآن وأحوال رسول  الله  صلى  الله  عليه  وسلم  ، يكشف  الله تعالى لهم غوامض أسرار القرآن ويمنحهم الحكمة  والبيان  ، ويلهمهم  الصواب فى القول والعمل والحكم ، ويمدهم بروحانية رسول الله صلى  الله  عليه  وسلم  ، وهم  الذين اشتاق إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الطويل  واشتاق  إليهم  سيدنا  على  بن أبى طالب كرم الله وجهه فى حديث كميل فى قوله : واشوقاه إليه  –وهم  الذين  أثنى الله عليهم وأخبر أنهم أولو الأمر من المسلمين بقوله : ( ولو ردوه  إلى  الرسول  وإلى  أولى  الأمر  منهم  لعلمه  الذين يستنبطونه منهم )[23]   . ولو كانوا مجهولين أخفياء لا يعرفهم أحد فإنهم معروفون لله ، معروفون للملأ الأعلى . وكل واحد منهم شمس يضئ لأهل السماء كما تضئ الشمس لأهل الأرض ، وهم العرائس ضنائن  الله  تعالى فى  أرضه لا  يوصل الله  تعالى  إليهم  إلا من سبقت لهم الحسنى وقدر الله لهم الوصول إليه سبحانه وتعالى باتصاله بهؤلاء الأخيار . أولئك والله الأئمة الهداة يرحم الله بهم وينظر إلى من شاء من عباده فى قلوبهم ، ذرة من  أعمال قلوبهم خير من أعمال الجوارح الدهر كله .. وهم الذين أكرمهم الله تعالى .. فكان معهم وجعلهم معه  سبحانه ، أرضاهم عنه ورضى عنهم ، لا تفى عباراتنا  بأحوالهم  ولا  تكشف إشارتنا مبادئ  شهودهم فى وجودهم – قال تعالى : ( فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) [24].  

ومن  صفاتهم  إخفاء حالهم وستر مقاماتهم ، فلا يقهرهم ولا يشغلهم مقام ولا يغضبهم مؤلم ، يغضبون  لله  ويرضون  لله ، تراهم  منقبضين على بساط المؤانسة وخائفين وهم فى حصن ( أولئك  لهم  الأمن  وهم  مهتدون ) [25] (وفى  خشية  وهم  على  موائد  إكرام الله تعالى لهم بالاستجابة – قال صلى الله عليه وسلم : ( رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره ) [26]. كمل والله توحيدهم شهوداَ فأفردوا ربهم بالعزة والجلال والعظمة والكبرياء والعطاء  والمنع والضر والنفع ، فذلوا للحق ولأهل الحق ذلاَ للحق ، وعزوا على الباطل وعلى أهل الباطل كراهة لما كره  الله  وحباَ  لما أحب الله . ذلوا للمؤمنين كما أمر الله تعالى وعزوا على الكافرين إعزازاَ للحق ، صغرت  الدنيا  فى  أعينهم عن  أن تشغلهم عن الآخرة نفساَ .. فكيف تشغلهم عن الله تعالى ؟! إذا رءوا ذكر الله ، مجالستهم تجذب النفوس إلى حضرة القدوس  ومحبتهم تحبب فى الله ، والقرب منهم تقريب من الله تعالى – قال صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إنى أسألك حبك وحب من  حبه يحببنى  فيك ) وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا يوقظ قلوب المؤمنين إلى محبة أهل المعرفة بالله تعالى المقبلين على الله تعالى بكليتهم ، وهم الحياة لأهل  عصرهم والنور  لمن  والاهم  والنجاة لمن اقتدى بهم رضى الله عنهم [27] .

إن الذى أقنع  الناس بإمامة أبى العزائم ، وأنه الحجة وأنه الوارث الكامل لهذا  العصر ، وأنه الرجل الذى كان ينتظره الرجال ليتكلموا على يديه .. ما تخلق به  من  الأخلاق  النبوية ، إنه نعمة كبرى أنعم الله بها على أهل هذا العصر ، ولذلك فإن الحديث عنه هو  أيضاَ  حديث عن الدين ، به علمنا الأخلاق المحمدية ، وبقيت عندنا نغماته العذبة التى كان يشدو بها  وقد التقى الشيخ خضير ، وهو شيخ طريقة صوفية من حضر موت ، وهو أيضاَ من أهل البصيرة ، مع المرحوم فضيلة العارف بالله الشيخ طاهر محمد السيد مخاريطة كبير وعاظ آل العزائم آنذاك ،  وكان  ذلك  فى  الأراضى الحجازية . تفرس الرجل فى وجه الشيخ طاهر ؟ فقال : تابع ، فسأل لمن ؟ فأجابه الأستاذ طاهر قائلاَ : لمولانا السيد محمد ماضى أبى العزائم . طلب الشيخ خضير – وكان  يصحبه  مجموعة  من مريديه – أن يجلس معه قليلاَ ، ثم سأله على الفور : هل  السيد  محمد  ماضى أبو العزائم سليل النسبين ؟ فقال الشيخ طاهر : نعم حسينى من جهة والده  وحسنى  من  جهة والدته ، فرفع الشيخ خضير يديه إلى السماء وقال : إذن هو ، فسأل وقال : أولد بمسجد ؟ فكان الرد : نعم ولد بمسجد سيدى زغلول برشيد ، فقال الشيخ خضير : إذن هو ، ثم سأل أكان يملى أم يكتب ؟ فكان الرد : بل يملى ، فقال : إذن هو ، ثم سأل وقال : أكان ضراباَ على فخذه إذا أبطأ الكلام ؟ فكان الرد : نعم . فقال : إذن هو ، ثم سأل فقال : أله  خال على  وجهه ؟ فكان  الرد : نعم ، فقال : إذن  هو ، ثم  سأل فقال : أأفلج الركبتين ؟ فكان  الرد : نعم  ، فقال : إذن  هو ، ثم سأل فقال : أأول خليفة له اسمه أحمد ؟ فكان الرد : نعم ، فقال : إذن هو ، ثم سأل فقال : أله زوجة حتى الآن أول حرف من اسمها هو ع ؟ فكان الرد : نعم اسمها  السيدة  عزيزة  السماحى ، فقال  : إذن  هو . فقام الرجل ووجه كلامه إلى أتباعه قائلاَ : يا أبنائى إن لم ننل من حجنا هذا العام إلا معرفة الإمام الختم أبا العزائم لكفانا ،  إنه تفوه بصلوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتفوه بها   إمام قبله ( فأعطاه الشيخ طاهر نسخة من الصلوات كانت معه ) ، إن حملة  سر هذا  الإمام فى الكون سبعة لو أعطيت سراَ  من  أسراره  على  ما  تفضل  الله  به  عليه  مت  لساعتى . وانفض  الحديث عند هذا الحد وانصرف فوراَ [28] .

 قال الإمام رضى الله عنه مبيناَ أسرار الرجال : نعم للرجال أسرار حجبت عنها أهل العقول ، سبحان من  يهب  الحكمة  من يشأ . إن الحق تقدست صفاته وتعالت آياته اختص من عباده قوماَ اجتباهم للدار الآخرة فشغلهم بها ، فأجسامهم فى الدنيا عاملة على نوال تلك الحظوة التى تحققوا يقيناَ بأنها ولا محالة كائنة ولابد من الرجوع إليها ، وأنها لا تنال السعادة فيها إلا بنوال الوسيلة إليها فى تلك الدار الدنيا ، فوفق الموفق من أحب للجد والنشاط فى كل ما به نوال تلك السعادة الآجلة فى الظاهر العاجلة  فى اليقين ، حتى  بشدة  صدقهم تحققوا أنهم  يرون  الجنة ويتمتعون  بها عند العمل  الصالح  كما يتحقق التاجر  بربح السلعة الرابحة ويجد  فى  طلبها منشرح الصدر مرتباَ ماليته وما يربحه حتى كأنه قبل البيع قد ملك الربح فى خزينته ، فهؤلاء حدى بهم اليقين حتى ذاقوا لذة وقوع البشرى والوعد كما يذوق المحقق لذة حصول النتيجة ، ومنهم العاملون على نوال هذا الخير الباقى والنعيم المقيم واللذة الدائمة فى الدار التى لا فناء فيها  بعد أن  يناله  أو زوال  من  ناله عنه لقصور مداركهم ووقوفهم عند أملهم وهواهم حتى حسن  لهم الحظ  والهوى  تلك  الحظوظ  الفانية  فطلبوها  ، وقوى ذلك الرأى الناتج عن تلك الأميال ، وزين مدد الرب لهم ( قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمن مداَ ) [29] حتى رأوا حزباَ يحسن  ما  حسنوا  أو يقبح ما قبحوا ، فسعى بهم ساعى المهلة إلى القول بالرأى والعمل بالهوى  ، فعلاماتهم  : ألسنة  تنادى  بتقويم  أود  الدين وقلوب ملؤها الحظ والشقاق والتفرقة ومساعدة أهل السؤدد الدنيوى ، وأبدان متعاصية على  أعمال الدين ( وإذا قاموا  إلى  الصلاة قاموا  كسالى  يراءون  الناس ولا  يذكرون الله إلا قليلاَ ) [30]الحج عندهم ساقط لأن الله أوجبه ولأنه  بأرض  بها آثار دينية  مجردة عن  الزينات والبهجة الدنيوية ، فترى أعلمهم يرى بلاد الكفر كعبة  له والتجول  فيها قربة لربه الذى يسعى فى نواله ، وأهل العقول القاصرة التى لا تمتد  إلى  كشف  حقيقة السعادة  إخوان لهم  حتى حكموا أن الله ليس إلا كما يتخيلون محكوم عليه بعقولهم ، لا يختص بسر غامض عن الأعضاء الحسية عبداَ من عباده ، وكيف يمكنه أن يفعل ذلك وقد حكم عقلهم السخيف عليه سبحانه بحكم لا يتعداه وفهم  هذا الوهم  الكاسد  كتابه العزيز برأى حكم  أنه  مراد  الله  حقاَ حتى لو كان لله مراد سواه لخاف الحق سبحانه من هذا الشريك وغير مراده بمراده .

تعساَ  لك  أيها  الغبى  الغر ، إن  للرجال أسرار أذاقهم حلاوتها بعد أن هذب نفوسهم بتوفيقه وألبسهم  حلل  الذل  والتسليم والمجاهدة لذاته وفى ذاته ، منهم المجملة أبدانهم بالعمل الصالح والخشوع والتواضع والذل ، وقلوبهم بالثقة والتوكل واليقين والتسليم والتوجه إليه والرضا عنه والحب  فيه والدعوة له بالحكمة والموعظة الحسنة ، للرجال سر أخفاه حتى عن الملائكة حتى كان  العبد المصطفى  له سبحانه يبتليه ، فاذا صبر اجتباه وإذا رضى اصطفاه بنص الحديث . لم  يكن الدين أيها  الغر كما تزعم عكوف على  العمل  الصرف للدنيا والغفلة عما أمر الله أن يعمل .. الدين عقيدة كما  نص القرآن ، وخلق كما كان الأنبياء ، وعمل كما كان الصديقون ، ومعاملة كما كان الحلماء  الرحماء  والكرماء ، أكان الدين جدل ومعارضات ورأى وترجيح ؟ قم  فتريض وزك  نفسك وقف  موقف  الجاهل  بنفسك أمام الحق ليفيض عليك علم من أنت ، ولديها تذوق لذة أسرار الرجال [31] .

 


[1]       البخارى ومسلم .

[2]       الطبرانى والحاكم والبيهقى وأحمد فى مسنده .

[3]      سورة الحجر آية 9.

[4]       سورة فصلت آية 42.

[5]      سورة الرعد آية 7.

[6]     الحاكم  وأبو داود فى كتاب الملاحم والسيوطى فى الجامع الكبير وابن حجر فى فتح البارى .

[7]     أبو داود وابن ماجة وابن حبان والبيهقى والحافظ الدمياطى فى المتجر الرابح .

[8]     كشف الغطاء للعجلونى حديث رقم 1744 ، والفخر الرازى ، وابن قدامة ، والأسنوى ، والبارزى ، واليافعى ، وأشار إلى الأخذ بمعناه : التفتازانى وفتح الدين الشهيد وأبو بكر الموصلى والسيوطى فى الخصائص .

[9]     الإمام مالك فى الموطأ بلفظ [ كتاب الله وسنة نبيه ] .

[10]     سورة الحجرات آية 7.

[11]     سورة آل عمران آية 101 .

[12]     الترميذى وابن ماجة والبخارى فى الأدب المفرد .

[13]     سورة الشعراء آية 219.

[14]      سورة الفرقان آية 64 .

[15]     كتاب نهج البلاغة لابن أبى الحديد .

[16]     سورة آل عمران آية 163 .

[17]      ابن ماجة والغزالىفى الإحياء

[18]       سورة يس آية 12

[19]     سورة آل عمران آية 103.

[20]      مجلة المدينة المنورة : السنة 9 العدد 31 ( 20 محرم 1356 الموافق 2 إبريل 1937 )

[21]     مجلة المدينة المنورة : السنة 9 العدد 28 ص11 ( 29 ذى الحجة 1355 الموافق 12/3/1937).

[22]     سورة البقرة آية 151 .

[23]     سورة النساء آية 83.

[24]     سورة السجدة آية 17.  

[25]     سورة الأنعام آية 82.

[26]      مسلم والطبرانى والترمذى والحافظ الدمياطى فى المتجر الرابح.

[27]     مجلة المدينة المنورة : السنة 9 العدد 33 ص9 ( صفر 1356 الموافق إبريل 1937).

[28]       رواه الأخ أحمد بيومى من المحلة الكبرى

[29]     سورة مريم آية 75

[30]      سورة النساء آية 142.

[31]     مجلة المدينة المنورة : السنة 21 العدد 8 ص16 ( 14 ربيع أول 1368 الموافق 14 يناير 1949)